تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* سمة اللاّتناهي، وهي سمة شائعة في معظم الثّقافات الّتي عرفت الكتاب، ويستعار لها صورة الكتابة البشريّة المنحطّة الزّائلة لإظهارها. وقد فسّر فخر الدّين الرّازي لفظ "الكلمات" الواردة في الآية 27 من سورة لقمان بأنّها داخلة في باب العجائب. ووجه التّأويل أنّ العجائب تكون بقول الله "كُنْ" و"كُنْ" كلمة، وإطلاق اسم السّبب على المسبّب جائز، آية ذلك أنّ الله سمّى المسيح كلمة لأنّه كان أمرا عجيبا وصنعا غريبا لوجوده من غير أب. ولمّا كان كلام الله عجيبا معجزا لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ثمّ كانت عجائب الله لا نهاية لها، دخل في تلك العجائب كلامه (3).

يتطابق تأويل فخر الدّين الرّازي تقريبا مع تأويل الجاحظ للآية 109 من سورة الكهف حين يقول: "وقد قال الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي اَلأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَاَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ". ويعلّق الجاحظ عليها بقوله: "والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلّف من الحروف، وإنّما يريد النّعم والأعاجيب والصّفات وما أشبه ذلك". (4). ومعنى هذا أنّ الله الّذي يخلق بكلمة "كُنْ"، فيوجد الشّيء بالكلمة، دلّ ذلك على أنّ كلّ الكائنات هي كلمات الله، أو هي الأشياء الّتي انبثقت في الوجود وظهرت بفضل الكلمة الخالقة واهبة الحياة. وحينئذ ليس للإنسان من دور سوى استقراء هذه الأدلّة والاستدلال بعجائب المخلوقات لبلوغ الحكمة الخفيّة من الخلق. ولمّا كان العجب هو حالة من جهل أسباب الظّاهرة، فإنّ اكتشاف السّبب يزيل الجهل ويقلب العجب إلى علم. يقول الجاحظ في هذا الشّأن: "فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل. وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواسّ وحكم باطن للعقول. والعقل هو الحجّة (…) ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأمّلته تأمّل متفكّر بعد أن تكون ثاقب النّظر سليم الآلة، غوّاصا على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحّة عقلك، ولا من الشّواغل إلاّ ما زاد في نشاطك، لملأت ممّا توجدك العبرة من غرائبَ الطّوامير الطّوال، والجلود الواسعة الكبار…" (5).

نتبيّن من هذا الشّاهد بعض الأمور، منها أنّ موضوع التّعجّب ليس الموجودات في حدّ ذاتها وإنّما الأسرار الخفيّة الكامنة في الكائنات والمخلوقات. فهي قبل كلّ شيء دليل على حكمة الخالق وعظمة البارئ ووحدانيّته. فقد أصبحت الأشياء موضوعا للمساءلة والاندهاش والتّعجّب والاستغراب لمّا كفّت عن أن تكون مجرّد أشياء منتثرة في العالم ومنخرطة في دورة النّظام الطّبيعيّ، فأضحت دلائل منتصبة يستدلّ بها على وجود دلالة متعالية ومعنى ميتافيزيقيّ. وقد أثّر هذا الانقلاب بدوره في مقياس الأشياء، فلم يعد الإنسان بل الله. كما أثّر في مقولة الحقيقة، إذ صيغت على نحو آخر حين تشكّل الكون بأسره على منوال العلامة، فأضحت الكائنات والموجودات نِصْبَة لا تحمل حقيقتها في شيئيّتها المحض ومادّيّتها الخالصة، وإنّما في علّة وجودها، وهي أن تكون آية لذوي الألباب.

فالأشياء المنتثرة في العالم ليست خرساء، فهي في ذاتها علامات ناطقة تسبّح بحكمة الله المحشوّة فيها. ولكنّها ستظلّ منطوية على حكمتها ما لم تجد الذّاتَ المدرِكَة الّتي تفكّ شفرتها، وتفجّر ما ثوى فيها من غرائب وأعاجيب وعلوم وحكم. وبهذا يكون الكون نصبة لأنّ الله يتجلّى من خلال العلامات ـ الأشياء الّتي كتبت بالقلم الرّبّانيّ على كتاب الطّبيعة. ولكن كيف يمكن للإنسان أن يقرأ هذا الكتاب؟ وكيف يمكنه أن يتواصل مع الله؟

الجواب: بالاستدلال. ذلك أنّ الاستدلال إن كان يتضمّن استقراء متحيّرا للأدلّة المنتثرة في الكون فإنّ هذا الاستقراء ذاته يقلب الطّبيعة إلى كتاب كتبت حروفه بالكلمات الإلهيّة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير