تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بيد أنّ كتاب الطّبيعة في التّصوّر الإسلاميّ لا يكافئه كتاب آخر سوى القرآن ذاته، فكلاهما يحمل في طيّاته آثار القول الإلاهيّ. فاستقراء كتاب الطّبيعة أو قراءة القرآن هما طريقتان في التّعبّد والتّواصل مع الله. ذلك أنّ الكلمة الّتي تخلق وتهب الحياة، والكلام الموحى المنزّل، كلاهما من أصل إلهيّ واحد. فمن يستقرئ كلمات الله المبثوثة في كتاب الطّبيعة أو يقرأ كتاب الله الموحى المنزّل إنّما يقرأ في كتابين قد ترجما آيات الله تارة بالكلمات/الأشياء وطورا بالكلام، أي بلغتين مختلفتين: لغة الأشياء المنتصبة في كتاب الطّبيعة، ولغة القرآن المنزّل بلسان عربيّ مبين.

وكثيرا ما التبست هاتان اللّغتان وتداخلتا بنسيان تمايزهما وانفصالهما واختلافهما الجوهريّ. فلغة الأشياء قد أضحت في العلم الحديث لا تترجم إلاّ بلغة الرّياضيات ولا يعبّر عنها إلاّ في ذلك الوسيط الرّياضيّ، أمّا لغة القرآن فقد ترجمت منذ نزولها في وسيط لغويّ هو العربيّة بما أنّ الوحي الإلاهيّ قد أنزل بلسان عربيّ مبين (6).

هذا التّداخل نجده في بعض نظريّات الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن (ولا فرق جوهريّ بينها). وهي تفسّر الإعجاز تفسيرا يخالف نظريّات الإعجاز اللّغويّة البيانيّة، ولكنّه قريب من نظريّة أوستين Austin في أفعال الكلام، إذ هو صورتها التّيولوجيّة. فإن كان كلام الله معجزا لا يُحَاكى فلأنّه من جنس الكلام الّذي يصنع أشياء العالم بالكلمات. فكلام الله فعل خلق، والكون بأسره هو عمل قول. فالله لا يتكلّم لكي لا يصنع شيئا لأنّ كلّ كلماته فعل ما دام يفعل ما يقول. وكلّ ما قام به "الإعجازيّون" المسلمون هو أنّهم اقتصروا على وصف آثار الكلام الإلهيّ المخلّفة في اللّغة القرآنيّة دون أن يتمكّنوا من كشف أسرار الحرف الرّبّانيّ الّذي به كان الخلق (7).

...

لقد برزت منذ عقود نظريّات جديدة في الإعجاز القرآني تشهد على هذا التّداخل بين لغة الأشياء ولغة الكلمات، وبين كتاب الطّبيعة وكتاب الله الموحى المقدّس، القرآن الكريم، لعلّ أبرزها ما اشتهر بتسمية الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن. وهي تسمية تُضمر تصوّرا كلّيّا إلهيّا للعالم panthéiste يضحي الله موجودا في كلّ ما خلق، فتكون أشياء العالم بذلك آيات تشهد على حكمته. فالكون تجلّ لأسمائه ولكلماته، بل هو (الله) كامن في قلب الأشياء لأنّه أوْدعها حكمته. غير أنّ هذا التّصوّر الإلهي الكلّي للعالم قد تحوّر قليلا في نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن. فإذا كانت حكمة الله في التّصوّر القديم كامنة في أشياء العالم فإنّ العلم في نطاق نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن ليس وسيلة لبلوغ تلك الحكمة. ذلك أنّ غاية هذه النّظريّة ليست بلوغ الحكمة الإلهيّة المودعة في الأشياء بالعلم، وإنّما تفسير كلام الله المودع في كتابه المقدّس بالعلم. فهي تترجم كلام الله أو تؤوّله وتفسّره بالقول العلميّ الحديث. وهي لا تنظر في "كلمات الله" الّتي نشأ بها كتاب الطّبيعة لأنّ العلوم الحديثة قد افتكّت من مؤسّسات الدّين منذ غاليلي سلطة النّظر إلى العالم والأشياء بإعادة تحديد طرائق النّظر فيها. فنظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن لا تريد تفسير العالم مادّيّا، ولا هي تفسّر العالم بأشيائه وموجوداته انطلاقا من المادّة على غرار العلوم الطّبيعيّة، وإنّما هي نظريّة تأويليّة تستند إلى المصادرة التّالية المستمدّة من القرآن وهي "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" (الأنعام، الآية38). فكلّ شيء في العالم قد سطّر في الكتاب. وكلّ ما يكتشفه العلم قد وجد سلفا في الكتاب. وهاهنا يتجلّى التّداخل بين كتاب الطّبيعة الّذي يترجم العلم الحديث "مفرداته" و"عباراته" بلغة الرّياضيات والفيزياء… وكتاب الله، القرآن المنزّل الموحى. فكتاب الطّبيعة يترجم "كلمات الله" بلغة الأشياء، بينما القرآن يترجم "كلام الله" بلسان عربيّ مبين. أمّا نظريّة الإعجاز القرآنيّ والتّفسير العلمي للقرآن فهي لا تفسّر "كلمات الله" ببيان نشأة الأشياء وتكوّن الموجودات وتخلّق المخلوقات، وإنّما هي تؤوّل "كلام الله" بلغة العلم الحديث. وهي بهذا الإجراء ليست نظريّة في العلم لأنّ مرجع العلم كتاب الطّبيعة، ولا هي بنظريّة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير