قال محمد اسماعيل المقدَّم: "وإذا كان آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها , فإن أعظم ما أصلح سلفنا البرار جمعهم القوة العلمية , والقوة العملية التي هي نشدان الكمال الممكن في العلم والعمل , واستصغار ما دون النهاية من معالي الأمور " , وقال ابن القيم: "كمال الإنسان بهمَّة تُرقِّيه , وعلم يبصِّره ويهديه ".
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.
الوقفة الثانية: قال الله تعالى عن" ذي القرنين: "إنا مكنا له في الأرض " أي: بالقوة والتمكين والتدبير والسعة في المال , والاستظهار بالعدد وعِظَم الصّيت , والشهرة ,"وآتيناه من كل شيء سببا" أي طريقا موصلاً إليه ... من علم أو قدرة أو آلة.
مكَّن الله لذي القرنين في الأرض ويسَّر له السبل , وأعطاه من الأسباب في شخصه وعقله وأخلاقه وفي جيشه وقوته وماله , ما جعله أهلا للوصول إلى ما وصل إليه , من الملك والتمكين والحكم.
والموهبة مفهوم يحمل معنى امتلاك الفرد لميزة ما , ويُقصد به استعداد طبيعيي أو طاقة فطرية كامنة غير عادية في مجال أو أكثر من مجالات الاستعداد الإنساني التي تحظى بالتقدير الاجتماعي في مكان وزمان معين ويستدل على تلك الاستعدادات من تحليل التعليقات اللفظية , وعن طريق ملاحظة النشاط التخيّلي والحركي للمرء.
بهذا يتبين لنا أهمية نظر المرء في نفسه وقدراته وما يمتلك من أسباب وفرص لخدمة دينه وأمته ومجتمعه , فلا يطالب نفسه بما لا يقدر عليه , و مالم يُمكَّن له فيه , وما ليس هو له أهل من جهة, ولا يتهرب مما هو في مقدوره وما أوتي فيه سبب , ولا يتكاسل عن أداء واجبه وما هو مناط به من جهة أخرى.
قال القاسمي: ومن فوائد القصة:" الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا , لما له من خفي الحكم وباهر القدرة , فلا إله سواه "
على هذا , فليس لتخصص فضلٌ على تخصص مطلقا , بل إن الأمر نسبي , فما يُفضل لشخص ربما لا يُناسب شخصا آخر .. وهكذا رفع الله الناس بعضهم فوق بعض درجات في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوئ , والمناظر والأشكال و الألوان , وقسم التخصصات بين خلقه ويسر لكل طريقاً خُلق له , والأذواق تتعدد والمواهب شتى , والناس معادن , ولكل وجهة هو موليها , فاستبقوا الخيرات ...
الوقفة الثالثة: قال الله تعالى عن ذي القرنين مرة:" فأتبع سببا" أي: فأتبع سبباً, سبباً آخر أو: فأتبع أمره سبباً , ثم قال عنه مرتين: " ثم أتبع سببا".
نلحظ من هذه العبارات أنه مع تمكين الله لذي القرنين وإعطاءه من كل شيء سبباً, فإنه لم يكتف بهذا في تحقيق هدفه والوصول إلى مبتغاه -وأنّى له أو لغيره أن يصل بهذا وحده - بل أتبع هذا بسبب يبلّغه ذلك , ويحقق له أمله, فبذل جهداً عظيما وجيَّش جنده وعدته وعتاده وما يمتلك من مال وقوة , ليواصل مسيرته وجهاده , ذلك لأنه أدرك حقيقة اتضحت لنا من خلال سيرته أنه لا بد من بذل الأسباب و الاجتهاد والنصَب ليصل المرء إلى مراده.
قال القاسمي رحمه الله: " ومن فوائد القصة: الإشارة إلى القيام بالأسباب , والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل , وأنه على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر ... "
وبالأخذ بهذه الأسباب الكونية على تمامها مع اقترانها بالأسباب الشرعية , يتحقق للمرء ما يريده, وينال خيري الدنيا والآخرة , ويُوفق ويُسدد في طريقه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" , وأما من قصَّر في أحد هذين الأمرين أوكليهما , فإما أن يفشَل ويُخفق في طريقه ولا يتحقق هدفه , وإما أن يُستدرج بتحقيق مراده , وربه ساخط عليه وهو يظن أنه موفق مسدد , عياذاً بالله تعالى ...
الوقفة الرابعة:قال الله عن ذي القرنين:" قال أما من ظلم فسوف نعذبه ... , وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ,وسنقول له من أمرنا يسرا"
¥