وعسر على الطلاب تحصيله فضلاً عن دراسته , وتأمل في اسم صحيح البخاري " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه " وكذا الترمذي " الجامع المختصر من السنن ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل ".
مع ما يذكر في تراجمهم من حفظ الواحد منهم لمآت الآلاف من الأحاديث إلا أنك ترى كتابه لا يتجاوز عشرة آلاف غالباً نتيجة للاختصار. ولم يأخذ الاختصار شكله الذي استقر عليه غالباً دفعة واحده بل تدرج شأنه شأن سائر فنون التصنيف في العلوم الإسلامية , ولذلك يصعب تأريخ ابتداءها تحديداً , بمن بدأت , وقد حدد ابتداءها الحجوي الثعالبي في القرن الرابع الهجري فقال: "إنه في القرن الرابع بدأت فكرة الاختصار والإكثار من جمع الفروع بدون أدلة , فبعد ما كانوا في القرن الثالث مصنفين مبتكرين كأسد بن الفرات و سحنون , وابنه , و البويطي , ومحمد بن الحسن , وأمثالهم , صار الحال في القرن الرابع إلى الشرح , ثم الاختصار والجمع , فانظر الفضل بن سلمه وابن أبي زمنين , وابن أبي زيد وال براذعي اختصروا " المدونة " في عصر متقارب , وهكذا نظراؤهم في عصرهم من المذاهب الأخرى كا لمزني حيث اختصر مذهب الشافعي , والاختصار لا يسلم صاحبه من آفة الإفساد والتحريف , فقد اعترض عبد الحق الاشبيلي مواضع من مختصر ابن أبي زيد القيرواني وال براذعي أفسدها الاختصار , وهكذا المزني اعترض عليه ابن سريج ... ولا يخفى أن الاشتغال بإصلاح ما فسد هو غير الاشتغال بالعلم نفسه , فالرزية كل الرزية في الاشتغال بالمختصرات" [الفكر السامي 2/ 146, 147].
ولعل هناك عدة عوامل ساهمت في ظهور المختصرات كفن من فنون التأليف وتطور الاهتمام بها حتى زاحمت المطولات في اهتمام العلماء وطلاب العلم حتى أصبحت مؤخراً العمدة في الدروس والطلب وحتى الفتوى. من هذه العوامل الحاجة التعليمية , فحينما يعاني العالم تدريس العلوم ويريد كتاباً يكون عليه مدار درسه خاصة لمن هم في مرحلة الطلب , يجد الصعوبة في التعامل مع المطولات , حيث يطول على المعلم والطالب تتبعه ويستوعب زمناً طويلاً في تدريسه , وكثير ما يكون المخاطب به شريحة العلماء , فلا يستطيع الطالب استيعاب معظمه , ويؤدي إلى تشتيته. فيستفيد إن استفاد معلومات ولا يستفيد علماً فيعمد العالم إلى وضع كتاب مدرسي يتوخى فيه الاختصار وتقريب المعلومة للتلميذ , بحيث إذا حفظه وفهمه كون لديه قاعدة تعليمية صلبة يستطيع أن يبني عليها ويتوسع من خلالها , وتكون معلوماته مركزة لا مشتته فيحصل للطالب التنقل في مدارج العلم حتى يصل للغاية المبتغاة.
ونرى هذا ماثلاً في كتب الموفق ابن قدامه المقدسي الحنبلي , حيث ألف أربعة كتب في المذهب الحنبلي راعى فيها التدرج من المختصر إلى المتوسط المذهبي إلى الموسوعة المقارنة ببقية المذاهب فألف العمدة ثم المقنع ثم الكافي ثم المغني , وكأن لكل كتاب من اسمه نصيب , يقول الموفق ابن قدامه في مقدمة العمدة http://www.tafsir.net/vb/images/smilies/frown.gif فهذا كتاب في الفقه اختصرته حسب الإمكان, واقتصرت فيه على قول واحد ليكون عمدة لقارئه , فلا يلتبس الصواب عليه باختلاف الوجوه والروايات) [العمدة مع شرح العمدة، ص 21].
وأما (المقنع) فهو كتاب للمتوسطين أطلق في كثير من مسائله روايتين ليتدرب الطالب على ترجيح الروايات ,فيتربى فيه الميل إلى الدليل , ثم (الكافي) وهو أوسع من المقنع فقد ذكر فيه الأدلة ليتأهل الطالب للعمل بالدليل , ثم كتابه الموسوعي (المغني) فقد أورد فيه المذاهب وأدلتها لتأهيل المشتغل به لدرجة الاجتهاد.فلم يكن الهدف عند المصنفين قديماً أن يكون المختصر هو النهاية إنما جعلوه مرحلة تأسيسية في الطلب حتى ينطلق الطالب بعد ذلك في العالم من قاعدة متينة , فالأساس المتين يؤهل الطالب لأن يكون متيناً في العلم , وعكسه الأساس المخلخل. ومنها ضعف الهمم المتتابع , فبعد ما كان هد ف الأوائل الإمامة رضي من بعدهم بمرتبة تلامذة الإمام ثم ما زالت الهمم في تناقص مما أقلق العلماء الكبار وجعلهم يتعاملون مع هذا الضعف بمصنفات متناسبة حتى لا يؤدي طول المصنفات إلى انصراف الناس عن العلم بالكلية.
¥