يقول ابن الحاجب في مقدمة مختصره الشهير في أصول الفقه (مختصر المنتهى): (فاني لما رأيت قصور الهمم عن الإكثار , وميلها إلى الإيجاز والاختصار صنفت مختصراً في أصول الفقه , ثم اختصرته على وجه بديع وسبيل منيع لا يصد اللبيب عن تعلمه صاد , ولا يرد الأديب عن تفهمه راد) [مختصر المنتهى مع شرحه رفع الحاجب 1/ 229].ويصف ابن الجوزي حال تدهور الهمم في زمانه بكثير من الأسف فيقول: (كانت همم القدماء من العلماء علية, تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت لأن همم الطلاب ضعفت , فصاروا يطلبون المختصرات , ولا ينشطون للمطولات , ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها , فدثرت الكتب ولم تنسخ. فسبيل طلب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات , فليكثر من المطالعة , فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد , وما يخلو كتاب من فائدة وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم , لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي , ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد , فالله الله عليكم بملاحظة سير السلف , ومطالعة تصانيفهم , وأخبارهم فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم) [صيد الخاطر ص 366].ورحم الله ابن الجوزي كيف لو رأى زماننا.
ومنها أن يكون بطلب من الخلفاء والأمراء , فقد يحتاج إلى النظر في علم وتشغله مهام الخلافة والسياسة عن التفرغ للعلم فيطلب إلى أحد العلماء أن يضع له ملخصاً في ذلك العلم يجمع له مهماته حتى يحقق أقل قدر منه , وقد يطلبه لنشر هذه الكتب وتقريرها بين الناس عن طريقه. ويذكر الحموي أن الخليفة العباسي القادر بالله تقدم إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنف كل واحد منهم مختصراً على مذهبه , فصنف له الماوردي (الإقناع) , وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف بـ (الكتاب) على مذهب أبي حنيفة , وصنف له أبو محمد عبد الوهاب البغدادي مختصراً في المذهب المالكي وقدم له رابع مختصراً في مذهب الإمام أحمد لم يحضره اسمه , فعرضت على الخليفة , فخرج خادم الخليفة إلى الماوردي وقال له: يقول لك أمير المؤمنين: حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا [معجم الأدباء 15/ 54].
فكأن الخليفة رأى من حفظ الدين أن يطلب من أبرز عالم في كل مذهب أن يؤلف مختصراً في مذهبه ليحفظ به أصول ذلك المذهب وفيه حفظ للدين , وسبحان الله كان المختصر الذي كتب له القبول والانتشار منها هو مختصر القدوري.
ومنها شهرة الكتاب المراد اختصاره ومكانته في ذلك العلم , وقد تتابع اختصارات ذلك المختصر الذي يحظى بدوره بذيوع وانتشار ربما يفوق أصله. فالجميع يعلم مكانة كتاب (الأم) ومؤلفه في الفقه عموماً وفي المذاهب الشافعي على وجه الخصوص. وقد عمد إليه المزني تلميذ الشافعي فاختصره في مختصره الشهير جداً عند الشافعية فأكبو عليه حفظاً ودرساً وشرحاً حتى قيل: كان يوضع في جهاز العروس وقام بشرحه كبار علماء المذهب كالماوردي وأبي الطيب الطبري والجو يني وابن الصباغ وغيرهم , وكان من أعظم شروحه (نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين الجو يني , وبلغ من مكانته أن سمي المذهب , وكأنه هو المذهب والمذهب هو , فأختصره تلميذه الغزالي في البسيط واختصر البسيط في الوسيط واختصر الوسيط في الوجيز وجاء الإمام الرافعي فشرح الوجيز في كتابه العظيم فتح العزيز الذي يعتبر النهاية في المذهب الشافعي واختصر الوجيز في المحرر وجاء النووي واختصر المحرر في المنهاج , وقد حظي المنهاج بشهرة عظيمة فاقت أصله فأكب عليه علماء الشافعية درساً وحفظاً وشرحاً واختصاراً وأصبح هو وشروحه العمدة في الدرس والفتوى , وممن اختصره زكريا الأنصاري في المنهج , فقيل اختصر الكتاب واسمه.
ومنها قلة ذات اليد لدى كثير من طلاب العلم فيختصر لهم الكتاب ليكونون اقدر على شرائه بالإضافة لندرة الورق والاعتماد على النساخ , فا الكتاب الكبير يستهلك أوراقا ً كثيرة وأوقاتاً طويلة في نسخه ويكون ثمنه باهظا , بعكس الكتاب الصغير.
¥