امتلكه من ناحيته ويكفي في رأيه أن يرد على أي استفسار ب" قال الناظم " ويردها من حفظه , وقد تربى عنده وهم أنه إذا ألقى محفوظه فهو يكفي حجة وبرهاناً وترى قيمة العالم تعلو أو تصغر لديهم بقدر محفوظاته , ولا يعترف بأحد مهما بلغ من العلم ما لم يكن لديه مستودعاً من المحفوظات يعرضه متى شاء كأحد محركات البحث السريعة , ولكن لو عرض عليه إشكال ليس في محفوظه لوجده عاجزا عن التعامل معه , فترى البعض مثلاً يحفظ ألفية ابن مالك الشهيرة في النحو ويحفظ أو يستظهر شروحها , وتراه في الدرس آية في عرض الأقوال والشواهد وغيرها ولكن لو عرضت له مسألة إعرابية لم تكن من محفوظه تراه يقف عاجزاً عنها لا يجد كيف يتعامل معها.
ومن المضحكات ما حصل في أحد البرامج الفضائية حيث كان الضيف أحد أساطين المختصرات , وكان المضيف يلقي له إشكالات يبثها الخصوم حول الإسلام , فكان يرد في كل ثقة على الإشكال: كيف وقد قال الناظم ويرد ما تجود به ذاكرته من محفوظات تتعلق بالموضوع، ويرى كأنه قد حل الإشكال بل وقضى عليه بما قال الناظم , والحافظ للكتاب من غير أن يفهمه لا يزيد أن يكون نسخة زائدة تسير على قدمين.وأما كون الاشتغال بالمختصرات يؤدي لانشغال الطالب بألفاظ المختصر أكثر من انشغاله بمسائل العلم ذاتها فهو صحيح إلى حد كبير جداً , وخاصة إذ أتبع المختصر بالاشتغال بالشروح والحواشي والتقريرات , وجلها منصب على ألفاظ المختصر , فتجد مثلاً في الشروح: لو قال كذا لكان أخصر , لو اختار التعريف الفلاني لكان أدق، لم يتحرز في تعريفه، أطلق في المسألة الفلانية , وهكذا , فيأتي المحشي فيعقب على الشارح كما عقب الشارح على المختصر , وكلها إشغال بالألفاظ أكثر من إشغالها بالمعاني , مما يتسبب في إرهاق الطالب وكد ذهنه بإشكالات قد لا تعود بفائدة ملموسة لذات العلم.
وعلاقة المختصرات بالحفظ غالبا لا بالفهم،والفهم يأتي تبعاً للحفظ , لذلك يوصي الطالب عند حفظه للمختصر أن يتعاطى ألفاظه بدون فهم حتى يستطيع ضبط المتن.
وبعد هذا هل المختصرات عديمة الفائدة بل وضارة بالعلم والتحصيل كما يقول البعض أم هي الأساس الذي يحرم العلم من تجاوزه.
الحقيقة الحكم على المختصرات كان مبنياً على استقراء ناقص للشخصيات العلمية , فحينما يعلي البعض من شأن المختصرات وحفظها ويردد دوماً " احفظ فكل حافظ إمام " وكأن الإمامة والتقدم في العلم لا تأتي إلا بكثرة المحفوظ وكأن الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد في الفقه وسيبويه والكسائي في النحو مثلاً لم يتقدموا إلا بمحفوظا تهم ولولاها ما كانوا أئمة , وفي هذا مغالطة كبيرة , فإمامتهم ناتجة عن إفهامهم لا عن محفوظا تهم وإلا فقد عاصرهم وجاء من بعدهم من يزيد عنهم حفظاً. وقد قال أحدهم: ما يحفظه الشافعي زكاة حفظي أي لا يتجاوز خمسة بالمائة مما يحفظ , ومع ذلك أين مكانه من الشافعي , وهذا أبو حنيفة لم يعرف بكثرة محفوظا ته.
ومع ذلك نال الإمامة في الفقه حتى قال ابن سريج الشافعي لرجل بلغه أنه يقع في أبي حنيفة: يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم وهو لا يسلم لهم الربع , قال: وكيف ذلك؟ قال: الفقه سؤال وجواب , وهو الذي وضع الأسئلة فسلم له نصف العلم , ثم أجاب عن الكل وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل , فإذا جعلت ما وافقوه مقابلاً بما خالفوه فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم وبقي الربع بينه وبين سائر الناس [انظر: المبسوط 1/ 3].
وربما أوقعهم في هذا الوهم ما يسمعون عن سعة محفوظات بعض الأئمة والعلماء الكبار. فيظنون أنها سبب رئيس في إبداعهم , فقوة حافظة هؤلاء جزء من قوتهم العقلية وربما تكون العبارة أقوم لو قيل: كل إمام حافظ.وحينما ينتقص البعض الآخر من شأن المختصرات ما يراه من نماذج قدمت صوره سيئة عن المختصرات وحفاظها , حيث ترى الواحد لا يستطيع أن يتجاوز المختصرات التي حفظها حتى في نفس التخصص , وما فائدة التعلم إن لم يمنح صاحبه قدرة على التعامل مع المعلومة وحل الإشكالات الواردة.
ولكن إذا كنا ننتقد المختصرات وحفاظها ورأينا السلبيات العديدة لهذه الطريقة , يا ترى هل قدمنا البديل المناسب؟ ثم ما هي مخرجات هذا البديل هل أخرجت لنا فقهاء ومفكرين وباحثين على مستويات العلمية والبحثية؟؟
¥