ولذلك عيب على البعض استعمال الألفاظ العلمية في الشعر حتى قيل فيها من باب التنقص منها "شعر فقهاء" يقول ابن خلدون: "أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم ابن رضوان كاتب العلاقة بالدولة المرينية , قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس ابن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدت مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له , وهو هذالم أدر حين وقفت بالاطلال مالفرق بين جديدها والباليفقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه , فقلت له: ومن أين ذلك؟ قال: من قوله: ما الفرق, إذ هي من عبارات الفقهاء وليست من أساليب كلام العرب.
فقلت له: لله أبوك إنه ابن النحوي , وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل وانتقائهم الجيد من الكلام".
ويضيف: "ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزيرا لملوك بالأندلس من بني الأحمر وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة , فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب وإن كان محفوظي قليلاً , وإنما أوتيت والله أعلم من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية , فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والصغرى في القراءات , وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش في وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب , فعاق القريحة عن بلوغها , فنظر إلى ساعة معجباً ثم قال: لله أنت , وهل يقول هذا إلا مثلك" [المقدمة 480].على أن هذا ليس على إطلاقه والمسألة ترجع إلى الملكة والقدرة على إنشاء كلام تحقق فيه سمات البلاغة كما أن من الفقهاء من استطاع الفصل بين كتابته في الشعر وباقي الفنون الأدبية وكتابته في أبواب العلم, وإن ساعده الكتاب المبسوط على استعمال البلاغة لم يساعده الكتاب المختصر. [انظر في ذلك أدب الفقهاء لعبد الله كنون].
أما تخليطها على المبتدئ حيث تلقي عليه غايات العلوم وهو لم يستعد لها فهذا ليس على إطلاقه ولا أظن غاية العلم إلا في القدرة على الاستدلال والنظر وهذا ما تسعفنا به المطولات ولا نستطيع أن نعطي المختصرات حكماً واحداً فهذا إمام الحرمين الجويني ألف مختصراً صغيراً جداً في أصول الفقه " الورقات " اقتصر فيه على التعريفات والمهم جداً في أصول الفقه وراعي فيه وضع الطالب المبتدئ حتى أنه تخلى عن تحقيق المسألة أو تقييدها حتى يفهم الطالب ما المسألة وحتى إن شراحه كثيراً ما يأخذون عليه إطلاقه وعدم تقييده أو خلطه وهذا لا يفوت عالماً محققاً كالجويني ولكن كان قصده فتح الباب أمام المبتدي ليتعرف شيئاً فشيئاً على أصول الفقه.
ولعل قصد ابن خلدون أن بعض المختصرات تلقي ثمرة الفكرة بدون مقدماتها واستدلالاتها التي يحتاجها الطالب قبل أن يصل إليها وهذا حق من هذه الناحية أما كونها تقضي على الملكة فهذا حقيقة والواقع العلمي لكثير من حفاظ المختصرات يشهد بهذا حيث يقوم بحفظ عدد من المختصرات ما بين منظوم ومنثور يقضي ربيع عمره وزهرة شبابه وتفتح طاقات عقله فيها فماذا بقي لشحذ الملكة وتنمية الإبداع ,ومن العجائب أن يوصي الطالب عند حفظ المختصرات أن يغلق باب الفهم والتفكير ويحفظ المعلومة كما هي فيحرم نفسه من أقل درجات التفكير وهو فهم المعلومة فماذا ترجي منه بعد ذلك , ويوصي بالإقلال من الحفظ والتكرار حتى يستقر في ذهنه فإذا كانت بعض المنظومات تتجاوز ألف بيت , ويوصي مثلاً لا يزيد عن حفظ بيتين في اليوم , ويتعين عليه أن يحفظ عدداً من المختصرات فكم سنة يحتاج حتى ينهيها , ثم يحتاج بعد ذلك لتكرارها بكثرة بين فترة وأخرى حتى لا ينساها فتصبح مشروعه العلمي الأوحد طوال عمره , فينصرف عن تنمية الإبداع وتكوين الملكة لديه , بل قد تموت كلية بسبب تعويد العقل على الحفظ وتمرينه على تلقي المعلومة بدون حتى أقل درجات التفكير وهو محاولة فهمها , وحتى يريحوا الطالب من عناء التفكير ويصرفوا همه إلى الحفظ كلية وضعوا له في كل فن مختصراً يحفظه ويستغني عن التفكير فيه , فطالما امتلك مختصراً في ذلك الفن فقد
¥