تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يفيد حرف الباء في اللغة العربية المجاورة والإلصاق، كقولنا ممرت بأحمد، أو أمسكت بيد أحمد، كما تفيد الظرفية الزمانية كقولنا تقطع الطائرة المسافة بساعة واحدة، وتفيد الظرفية المكانية كقولنا نزلت بدمشق، في حين تفيد “في” الظرفية الزمانية والمكانية، كقولنا: صمت في رمضان في دمشق، من هنا نجد أن الباء تشمل معاني في، فالتغيير في داخل النفس، لكنها تحمل معنى آخر عن التغيير لما هو ملاصق للنفس، أو بجوراها.

هذا الجوار للنفس، قد يكون نفساً أخرى، قد يكون مجتمعاً كاملاً، وقد يكون ظرفاً تمر به تلك النفس، بكلمات آخرى إن هذه الآية تتضمن معنى أن تغيير الأوضاع الإجتماعية يتم بصورة مباشرة، وبالتعرض لهذه الأوضاع ومعالجتها، وليس عبر التغيير داخل النفس كما قد يُفهم من هذه الآية على سياق واسع.

لنتأمل مرة أخرى قوله تعالى (((ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))) [الأنفال: 53] وقوله تعالى (((لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ))) [الرعد: 11] ولنركز في الآيتين على قوله تعالى (((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)))، متجاوزين بعض الجزئيات عن النعمة وزوالها.

هناك محوران يجب توضيحهما لنفهم الآية…

المحور الأول أن في الآية تغييران، أحدهما حدوثه معلق والآخر حدوثه مطلق، المعلق هو تغيير الله سبحانه وتعالى، علّق حدوثه على حدوث التغيير الثاني المطلق، وهو تغيير الأفراد لما بأنفسهم.

إذن حقيقة هناك تغيير واحد، هو التغيير البادئ من الأشخاص، والمتعلق بهم وبقرراهم، فإن أرادوا التغيير، فالله سبحانه وتعالى لن يوقف إرادتهم، لإنه وكما هو واضح أنه أعطى إذنه سبحانه بالتغيير، بل وعلّق التغيير بإرادتهم، بمعنى أنه لن يغير شيئاً من عنده، حتى يبدؤوا هم بالتغيير، سواءّ للخير أو للشر، حينها سيتبدل حالهم وفق ما أحدثوه من تغيير، من هنا أيضاً نقول أن التغيير يحدث بإذن رباني، والإرادة الربانية المرتبطة بأذهاننا بكلمة “كن”، لا ينبغي أن يفهم منها أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه حتى لحظة زمنية واحدة، تنقلب بعدها رأساً على عقب بصورة فجائية. "لصاحب الظلال رحمه الله كلام رائع في هذا المعنى عند تناوله لهذه الآية"

أما المحور الثاني، فهو أن التغيير ليس محصوراً فقط على تغيير مافي داخل النفس، بل يتعداه لإصلاح مافي داخل المجتمع من أوضاع مختلة، سواءّ دينية كعدم الصلاة والصوم، أو أخلاقية كالكذب والغش، أو اجتماعية كالظلم والقهر والتعدي على حقوق الناس، بل وحتى أوضاع إقتصادية وسياسية، وكلها من مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتغيير هذه الأوضاع يتم بمباشرتها ومعالجتها، وليس فقط بالإنكفاء والارتداد لإصلاح داخل النفس وزيادة عبادتها، حينها تكتمل صورة التغيير المنشود.

إضافة لذلك تجدر ملاحظة أن التغيير هو عمل جماعي، وليس عمل فردي، يتم في جماعة (بقوم) (على قوم) (حتى يغيروا) (أنفسهم)، فالتغيير المنشود (الذي سيأذن به سبحانه) والتغيير الفعلي (الذي تقوم به الجماعة) هو تغيير جماعي ينعكس على كل المحيط والمجتمع.

أعرف أن هذا الكلام قد لا يعجب البعض، لكن هذا لا يعني أنه خاطئ بطبيعة الحال، كما أنه لا يتضمن ولا يقترح صورةً لشكل هذا التغيير، سواء ثورة أو حرب أو حوار، لكن ما أود تاكيده على ضرورة إدراك أن هذا التغيير لا يقتصر على تغيير مافي داخل النفس من إصلاح وغيره، بل متعلق بالأوضاع المعاشة، ولهذا شواهد كثيرة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير