من هذه الشواهد، معركة أحد، فجميعنا نعرف أن الرماة عندما غيروا وضعهم وتركوا مواقعهم، حدث الإلتفاف على جيش المسلمين ووقعت الهزيمة، وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيقافها، لكن سنته إقتضت أنه لا يغير حتى يغير البشر من أفعالهم، فكان المسلمون متجهين إلى النصر، فغيروا في حالهم ومواقعهم، فحدث بنتيجة هذا التغيير الهزيمة، فالله عز وجل كان قادراً على منع جيش قريش من الإلتفاف، لكنه لم يشأ أن يحدث ذلك، ولم يأمر بعكس ذلك.
من هنا كان قولنا في بداية المقال، أن النهضة والإستخلاف لا تحدث بمعجزة ولا يمكن أن نجلس بلا عمل وننتظر أن يقول رب العالمين "كن"، لأن سنته اقتضت أن يعمل الإنسان ويغير ليحقق مراد الله منه.
من هذه الشواهد أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام حينما سُئل أنهلك وفينا الصالحون يارسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم إذا كثر الخبث)، ومنها ماورد في الأثر من قوله عليه الصلاة والسلام: (أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن أقلب مدينة كذا وكذا عل أهلها، قال إن فيها عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، قال اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط)
نعم ايها الأحبة، فهذا العبد لم يمارس الفهم الصحيح للدين، حينما إنكفأ على ذاته ونفسه، ولم يبادر لإصلاح ما حوله وهو مصداق لقوله عليه السلام في الحديث المرفوع: (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
إن هذا تماماً عكس الصورة النمطية عن هذه الآية في أذهاننا، أن عليك أن تصلح نفسك فقط، وكل شيء سيكون جيداً بالتالي، إن هذا التصرف، أزعم أنه سيكوّن مايعرف بالتدين السطحي في المجتمع، وهو أن ترى المساجد مملوؤة بالمصلين، لكن ترى مع ذلك انعدام الصدق والأمانة، وقلة احترام الوقت واحترام الآخرين، وترى الظلم ممارس من الكبير على الصغير، ومن القوي على الضعيف، ولا أحد ينادي لاسترداد الحق، في حين أن المفروض أن تكون صلاتك هي حافزك لقول الحق ودفع الظلم.
إن هذا يذكرني بمقولة للأستاذ جودت سعيد أن التوحيد مشكلة إجتماعية وسياسية، وليست فقط مسألة عقدية، بمعنى أننا يجب أن نمارس التوحيد في حياتنا العادية، وليس فقط أثناء صلاتنا وكافة اشكال عباداتنا، ويتجاوز ذلك إخلاص نيتنا لله عزوجل، ليصبح إدراكنا أن الرازق والمدبر هو الله سبحانه وتعالى، وحده وليس أحد آخر كرب العمل هو حافزنا لقول الحق، دون الخوف من إنقطاع الرزق، و أن يصبح إدراكنا أنه سبحانه هو العادل هو حافزنا لممارسة العدل والقول به في كل أنماط تفاعلاتنا، أقول أن نمارس وأن نفعل، لا أن ندرك فقط، فالإدراك متحقق بتوحيدنا له سبحانه وتعالى، لكن علينا أن نمارس هذا الإدراك.
لكن قد يأتي من يقول أن هذا الكلام غير دقيق، من ناحية ضرورة التدخل لتغيير وضع سلبي أو سيء، وبسهولة يمكنه أن يستشهد بقوله عليه الصلاة والسلام (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن لم يكن له شيء من ذلك فليعمد إلى سيفه، فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت) الحديث صححه الألباني في الصحيح الجامع.
لكن لا أرى أن هذا الإستشهاد صحيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتحدث هنا عن فتنة، وقتل وقتال، لكن ما نتحدث عنه هو الإصلاح والبناء والتغيير المستمر، والمرتبط بكل أوقات حياتنا، وليس النشاط المرتبط بإحداث الفتنة أو أحداثها، الإصلاح وليس القتال، الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالتالي فهذا منحى مختلف وبعيد عن مانقوله في هذا المقال.
أرجو أن تلاحظوا أيها الأحبة، أنني لست ضد المناداة بإصلاح النفس أولاً، وأعلم تماماً أن هذا هو مجال كبير للعمل، ومجال حيوي وهام للإصلاح، لكن أقول حتى يكتمل، يجب أن ينعكس بشكل مباشر في المجتمع، ولا يحسبنّ أحدٌ أن هذا الإنعكاس سيحدث فرقاً كبيراً في وقت قصير، فالتغيير عمل تراكمي، يحدث بتراكمات صغيرة، ليصل لشكله النهائي المنشود.
نهاية، لابد من التأكيد مرة أخرى، على ضرورة إعادة التفكير في آيات الله، بالطريقة التي نتمكن منها من إستنباط سننه سبحانه وتعالى في هذا الكون، مما يعود بالنفع علينا، وإقامة النموذج الإسلامي الذي يقدم النموذج الخاتم للبشرية، بمايليق بالموحدين لرب العزة وبمايليق بجهده عليه الصلاة والسلام في تبليغ الدين، وجهد من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.