تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فبالخلط بين هاتين الحقيقتين زاد التعصب من البعض واتهم من قرر استحالة حمل بعض الآيات على الظاهر بتهم منشؤها قلة التأمل في المغايرة بينهما أو التسرع في اتهام الغير وهم جمهرة كبيرة من العلماء.

قد يطول الكلام في هذه المسألة، وبعض الطلبة فيما تنامى إلى علمي يعكف الآن على جمع الآيات القرآنية التي يستحيل حملها على ظاهرها لكونها (أي الظواهر) غير مراد لله تعالى، وذلك لما تفيده من معاني منافية كليا لثواب العقيدة الإسلامية، وأتوقع أن يكون بحثا علميا مهما جدا ولعله يخفض من حدة تعصب البعض ممن يشنعون على القائلين باستحالة بعض المعاني القرآنية الظاهرة في بادئ الأمر.

وسأشير هنا إلى مثال واحد، يبين أن صرف بعض الآيات عن معناها الظاهر المتبادر واجب شرعا، وذلك لأن حملها على ظاهرها يؤدي إلى وصف الله تعالى بالنقائص كالجهل الذي هو من أشنع النقائص.

ففي قوله تعالى في مفتتح سورة العنكبوت آية (3): (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) يؤدي الحمل على الظاهر إلى وصف الله تعالى بعدم العلم (وهو الجهل) لغاية ظهور نتائج الابتلاء والامتحان للعباد، وفي وصف الله تعالى بالجهل في لحظة من اللحظات خروج عن ثواب العقيدة الإسلامية، ولهذا صرف أئمة أهل السنة هذه الآية ومثيلاتها عن معانيها الظاهرة رغم ظهورها وتبادرها أولا إلى الأذهان لأنها بالقطع واليقين غير مرادة لله تعالى لكونها معارضة للقواطع العقلية والنصوص الأخرى الشرعية.

وبعد اتفاق العلماء على صرف الآية عن ظاهرها، تتنوع أجوبتهم وتفسيراتهم، فيحمل ابن عباس رضي الله عنهما مثلا العلم على الرؤية (ابن كثير ج10/ص493) وهذا تأويل بمعنى الصرف عن الظاهر بلا شك لأن العلم يغاير الرؤية، وأما ابن جرير فيحمل الآية على إظهار العلم لأوياء الله تعالى، أي: ليعلمن أولياءُ الله صدق من صدق وكذب من كذب (الجامع ج18/ص357)

وكلام أهل التفسير في هذا المثال وغيره يفيد إجماعهم على وجوب صرف بعض الآيات عن معناها الظاهر إلى معاني أخرى يحتملها الكلام بحسب لغة العرب، إذ هي أقرب إلى مراد الله تعالى إن كانت متعددة، أو عين المراد إن لم يبق إلا معنى واحد بعد الصرف عن الظاهر المحال.

كيف تصف غيرك بالتعصب لمجرد مخالفتك؟

هل حمل الآية على ظاهرها يخالف شيئا من العقيدة أو الإيمان؟

لا فالعلم المذكور هنا علم الشهادة , وهو معنى قوله عز وجل:"عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ" [الرعد/9]

فالله عالم الغيب الذي يعلم ما كان وماسيكون وما لم يكن أن لوكان كيف يكون. وعالم الشهادة الذي لا يغيب عنه شيء بل هو كما قال "هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [الحديد/4]

ـ[نزار حمادي]ــــــــ[27 Jun 2010, 04:47 م]ـ

الآية المذكورة في واد، والآيات المستشهد بها في واد.

فـ"عالم" و"يعلم" ليس فيها من حيث الوضع اللغوي الظاهر ما يقتضي الجهل قبل العلم، وأما "ليعلمن" و"ليعلم" وغيرها تفيد بظاهرها ذلك، ولهذا صرفها العلماء عن الظاهر المستحيل كما تقدم النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والإمام ابن جرير وكفى به شهيدا.

وفهم الآية بمعنى أنه تعالى يعلم بالغيب في وقت، وسيعلم الشهادة في وقت آخر، ينافي العقيدة الإسلامية التي من أسسها أن الله تعالى يعلم أزلا في لحظة واحدة ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون، ويستحيل أن يتراخى علمه بالشهادة على علمه بالغيبيات لأن من لوازم ذلك البينة: الجهلُ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ومن الأدلة الأخرى على استحالة حمل بعض الآيات على ظاهرها قوله تعالى في سورة البقرة: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ)

قال الإمام الطبري: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا بعد اتباع المتّبع وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟

قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله: (وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه) بخبر عن أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده.

فإن قال: فما معنى ذلك؟ (جامع البيان، ج2/ص641)

فهذا السؤال الذي أورده الإمام الطبري إنما يرد بفهم الآية فهما ظاهريا؛ إذ حقيقة اللغة العربية تثير هذا السؤال لا محالة؛ إذ ظاهر "لنعلم" في لغة العرب تفيد عدم العلم (الجهل) قبل العلم.

ثم قال الإمام الطبري: قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه: (إلا لنعلم) ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسوله وأولياؤهُ من حزبه، وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس، ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم: " فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق، وجَبى خَرَاجها "، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي، واستقرضته فلم يقرضني، وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني. (جامع البيان، ج2/ص641، 642)

فهذا أيضا دليل واضح وبرهان ساطع على أن الصرف عن الظاهر في بعض الآيات واجب شرعا، وأما وجوه الصرف فتتنوع بحسب الاحتمالات الصحيحة، ولم يقل الإمام الطبري أن: "لنعلم" يتعلق بعلم الشهادة لأن هذا اعتراف بأن الله تعالى يجهل في الأزل ما سيقع في عالم الشهادة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير