5 - التدرج بحكم قد أُذِن به أولاً على طريق التخيير، ثم إلغاء هذا التخيير، وتعيين أحد المُخيَّرَيْن، كما في الصوم حيث شرع أولاً الصوم مخيراً بينه وبين الفدية عنه، بالنسبة للقادرين على الصوم، ثم ألغى هذا التخيير، وتعين الصوم وحده عليهم.
6 - تنويع الحكم الواحد وتصنيفيه حسب حالات المكلفين، ومراعاة لظروفهم، وذلك كما هو الحال فى العدة حيث تتنوع إلى: (عدة وفاة، وعدة طلاق، وعدة الحامل، وانتفت العدة عن غير المدخول بها) وكما هو الحال في الكفارات أيضاً التي تتنوع إلى عتق، وصيام، وإطعام للمساكين، أو كسوتهم، وغير ذلك.
وفى رأيي أن هذا اللون من التدرج بالناس في إطار الحكم الواحد، لا يقل أهميةً عما يتصوره كثيرون من التدرج بالحكم بتغييره، وتبديله بأخر، بل إنه يدل أيما دلالة على أن هذه الشريعة الغراء ليست شريعة قسرية جافة، ولكن شريعة حية تتفاعل مع المكلفين مراعية لظروفهم النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فتشرع لهم ما يتناسب وحالهم.
وإلا فلِمَ لَمْ يعين القرآن نوعاً واحداً من أنواع العدة للمرأة ليستمر معها، وإن اختلفت أسباب الاعتداد؟ َ ولَمْ يعين كذلك نوعاً واحداً من أنواع الكفارات، ليكون جبراً لما يقع فيه المكلف من أخطاء؟
إن الناس تختلف ظروفهم، وأحوالهم، وطاقاتهم، فمنهم من يتناسب وحاله هذا اللون أو ذاك، ومنهم من لا يلائمه إلا هذا اللون أو ذاك، كل ذلك فى إطار حكم واحد تعددت أشكاله، وفق حكمة عالية من قبل الشارع، ويعرف بذلك بجلاء من يقف على حكمة التشريع الظاهرة البعيدة عن التكلف، لأي حكم من الأحكام التكليفية.
* كيف نقف على سنة التدرج هذه من خلال آيات القرآن الكريم؟
والجواب أن ذلك يتأتى من خلال ترتيب الآيات الواردة في الموضوع الخاضع للدراسة ترتيباً زمنياً، يتميز فيه السابق على اللاحق، ومن خلال التدبر فى مجموع هذه الآيات تدبراً يُبْنى فيه ثان على أول، ولاحق على سابق، تظهر الفوارق، وينجلي الحكم، ويوقف على سلم التدرج.
ومما يعين على معرفة الترتيب الزمني للآيات للكشف عن التدرج وتمييز مراحله ما يلى:
1 – أن يكون في النص القرآني ذاته ما يشير إلى ذلك، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون * الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " (الأنفال: 65، 66)
وهذا مثال للكشف عن الترتيب الزمني للتشريع، وليس مثالا للتدرج، لأن هذا تدلٍ في التشريع، وليس ترقيًا.
2 – أن ينعقد الإجماع على تعين المتقدم والمتأخر من النصوص المتعلقة بالموضوع الخاضع للدارسة.
3 – أن يرد نص صحيح عن بعض الصحابة حول تعيين السابق واللاحق من الآيات المقصودة، ويحضرني في ذلك مثال في صحيح البخارى، وهو تحديد عبد الله بن مسعود للسابق واللاحق من آيتي البقرة، والطلاق، في عدتي المتوفى عنها زوجها، والحامل، وأعني آية {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} (البقرة: 234)، وآية {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (الطلاق: 4) فقد قال ـ رضي الله عنه ـ في ذلك فيما أخرجه البخاري قال: " لنزلت سورة النساء الصغرى بعد الطولى " مصدراً كلامه بلام التأكيد، ويقصد أن سورة الطلاق نزلت بعد سورة البقرة.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن سورة النساء الكبرى هي سورة البقرة، كما ينص على ذلك وصف ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا، خلافا لما هو شائع من أنها سورة النساء، حيث شاع ذلك بين المفسرين، ولم أقف لى أثر يؤيد ما قالوا، بل الأثر يدل على ما ذكرت والله أعلم.
4 – أن تكون هناك روايات صحيحة قد وردت في سبب نزول هذه الآيات يتعين فيها تاريخ كل.