تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

نشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليهم منه شيء ويدرسون فيه ويفتون به، وهم لا يعرفون سواه، بل لا يميزون بين الفاعل والمفعول! والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله، بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف، وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز ثم إذا انضم إلى ذلك الإطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون وعمل بها المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين، وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ولما هو حسن ولما هو ضعيف وجب العمل بما كان كذلك من السنة، ولا يحل التمسك بما يخالفه من الرأي سواء كان قائله واحدا، أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب أو السنة، فكيف بما كان منها كذلك؟ بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) إلى غير ذلك، وصح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد ".

فالحاصل أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله، ويرجح بها بين ما ورد مختلفا من تفسير السلف الصالح ويهتدي به إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح فهو مجتهد لا يحل له أن يقلد غيره كائنا من كان في مسألة من مسائل الدين بل يستروى النصوص من أهل الرواية، ويتمرن في علم الدراية بأهل الدراية، ويقتصر من كل فن على مقدار الحاجة.

والمقدار الكافي من تلك الفنون هو: ما يتصل به إلى الفهم والتمييز، ولا شك أن التبحر في المعارف، وتطويل الباع في أنواعها هو خير كله لا سيما الاستكثار من علم السنة، وحفظ المتون، ومعرفة أحوال رجال الإسناد، والكشف عن كلام الأئمة في هذا الشأن، فإن ذلك مما يوجب تفاوت المراتب بين المجتهدين لا أنه يتوقف الاجتهاد عليه.

فإن قلتَ: ربما يقف على هذا الكلام من هو متهيء لطلب العلم فلا يدري بما ذاك يشتغل، ولا يعرف ما هو الذي إذا اقتصر عليه في كل فن بلغ إلى رتبة الاجتهاد، والذي يجب عليه عنده العمل بالكتاب والسنة؟

قلتُ: لا يخفى عليك أن القرائح مختلفة والفطن متفاوتة، والأفهام متباينة، فمن الناس من يرتفع بالقليل إلى رتبة علية، ومن الناس من لا يرتفع من حضيض التقصير بالكثير، وهذا معلوم بالوجدان. ولكني ههنا أذكر ما يكتفي به من كان متوسطا بين الغايتين؛ فأقول: يكفيه من علم مفردات اللغة مثل القاموس، وليس المراد إحاطته به حفظا، بل المراد الممارسة لمثل هذا الكتاب، أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى وجدان ما يطلبه منه عند الحاجة.

ويكفيه في النحو مثل الكافية لابن الحاجب، والألفية وشرح مختصر من شروحها.

وفي الصرف مثل الشافية، وشرح من شروحها المختصرة مع أن فيها مالا تدعو إليه حاجة.

وفي أصول الفقه مثل جمع الجوامع، والتنقيح لابن صدر الشريعة، والمنار للنسفي، أو مختصر المنتهى لابن الحاجب، أو غاية السول لابن الإمام، وشرح من شروح هذه المختصرات المذكورة، مع أن فيها جميعها ما لا تدعو إليه حاجة، بل غالبها كذلك، ولا سيما تلك التدقيقات التي في شروحها، وحواشيها فإنها عن علم الكتاب والسنة بمعزل، ولكنه جاء في المتأخرين من اشتغل بعلوم أخرى خارجة عن العلوم الشرعية ثم استعملها في العلوم الشرعية، فجاء من بعده فظن أنها من علوم الشريعة، فبعدت عليه المسافة، وطالت عليه الطرق فربما بات دون المنزل، ولم يبلغ إلى مقصده، فإن وصل بذهن كليل، وفهم عليل؛ لأنه قد استفرغ قوته في مقدماته، وهذا مشاهد معلوم فإن غالب طلبة علوم الاجتهاد تنقضي أعمارهم في تحقيق الآلات، وتدقيقها ومنهم من لا يفتح كتابا من كتب السنة، ولا سفرا من أسفار التفسير، فَحَالُ هذا كحالِ من حصل الكاغد [يعني الورق]، والحبر، وبرى أقلامه، ولاك دواته، ولم يكتب حرفا! فلم يفعل المقصود؛ إذ لا ريب أن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير