تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا صحت هذه المقدمة ظهر أنَّ الوجوه الأخرى التي سيذكرها مبنية على تصور اختلاف متضادٍ في الآية، والأمر ليس كذلك، كما شرحت لك.

فقوله: ((ولا يصح قول من زعم أن الراسخين يعلمون تأويله))، فهذا لم يقل به أحد من السلف على وجه التأويل الذي ذهب إليه ابن قدامة رحمه الله.

لكن إذا كان التأويل بمعنى التفسير، فهذا لا يمكن أن تنفى معرفته عن الراسخين، بل له علاقة بأصول الاعتقاد، وهو كون الله خاطبنا بما لا نعلم معناه، وهذا له ما بعده مما أدخله الفلاسفة كابن سينا وغيره من أهل التخييل والتوهم الذين يزعمون أن النبي خاطب العامة بما يدركونه من المحسوسات، والأمر أن لا جنة ولا نار.

هذا هو منتهى من يزعم أن في القرآن ما خوطبنا به، وأنه لا أحد يعلم معناه، وبسط الوصول إلى هذه النتيجة يطول، وهو موجود في كلام شيخ الإسلام.

ثالثًا: يظهر جليًا من نص الإمام ابن قدامة أن يناقش قومًا يرون جواز التأويل ـ فيما لا يجوز فيه التأويل ـ ويزعمون أنهم من الراسخين، وأنهم يعرفونه بدلالة هذه الآية، بدلالة قوله في نهاية هذا النقل (والخصم في هذا يجوز التأويل لكل أحد، فقد خالف النص على كل تقدير).

وعلى هذا جمهور أهل البدع من المؤوِّلة الذين تأوَّلوا كلام الله ورسوله على غير ما يراد به، فصاروا أهل تحريف، وهم يدَّعون التأويل، وهذا ظاهر من كتبهم العقدية؛ كرسالة الإرشاد والشامل للجويني، وأساس التقديس للرازي، وغيرها ممن سار على التأويل الفاسد الذي هو لمصطلح التحريف أقرب.

وأصحاب هذا المذهب قد ناقشهم شيخ الإسلام في بعض كتبه؛ كتعليقته على سورة الإخلاص، ورسالته في المحكم والمتشابه، وكتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل، وغيرها، كما ناقشها أيضًا تلميذه ابن القسم في كتابه الصواعق المرسلة.

والمقصود أن الشيخ ابن قدامة رحمه الله صبَّ كلامه في هذه الآية على التأويل الفاسد الذي يُدَّعى به الوصول إلى ما ستره الله من علمه.

رابعًا: إن تفكيك موضوع المحكم والمتشابه وارتباط التأويل به يكفي معرفة أنواع التأويل الفاسد من غيره، ويعرف به معنى الآية على وجهها، فأقول:

لقد كتبت في هذا الموضوع كتابةً مفصلة في كتابي (مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر) وتكلمت عن هذه الآية وما فيها من التفسير والوقف، وهاأنذا أختصر شيئًا من ذلك هنا:

1 ـ المتشابه نوعان:

الأول: المتشابه الكلي، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه، أو تعرض لتأويل، فقد دخل في الزيغ الذي نبه الله عنه في هذه الآية، ومنهم من يدعي معرفة الغيوب عن طريق الأحرف المقطعة، أو من يدعيه عن طريق ما يسمى بالإعجاز العددي، أو من يدخل في تعريف كيفيات صفات الله تعالى.

وهذا الصنف ـ فيما يظهر ـ هم الذين اتجه إليهم كلام الإمام ابن قدامة، والله أعلم.

وعلى هذا النوع من المتشابه يكون الوقف على لفظ الجلالة، ويكون الراسخون ممن لا يعلمون تأويله، وهم ممدوحون بتفويض العلم الله خلافًا لأهل الزيغ المذمومين الذين يتبعون هذا النوع من المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

الثاني: المتشابه النسبي، وهو الذي يخفى على قوم دون آخرين، فالناس ليسوا مرتبة واحدة في الفهم، وهذا مما لا يحتاج إلى تقرير، فقراءتهم للقرآن، وفهمهم له يختلف لأسباب متعددة، من أهمها التكوين العلمي للأفراد.

وهذا النوع يدخل في معلوم البشر، وهو مرتبط بإدراك المعاني، وهو الذي يُبنى عليه قاعدة: ليس في القرآن ما يخفى معناه على الناس، بحيث لا يعرفه أحد منهم.

ومن هذا النوع أسئلة صبيغ للصحابة، فهو كان يسأل سؤال متعنِّت مجادلٍ، ولم يكن سؤاله سؤال استعلام، لذا لم يُجبه الصحابة، مع أنه قد سأل غيرهم بعض أسئلته وأجيبوا، وذلك ظاهر باستقراء أسئلة صبيغ وتفسير السلف لها.

ولم يرد في أسئلة صبيغ ـ فيما أعلم ـ انه سأل عن متشابه كليٍّ لا يعلمه إلا الله، بل أسئلته من الذي يعلمه الراسخون في العلم، لكنهم لم يجيبوه لمعرفتهم لحاله، ولفقه خاصٍ لهم في هذه المرحلة التي كانوا يعيشونها، والله أعلم.

ومن ظواهر الزيغ في اتِّباع المتشابه النسبي ما وقع للخوارج والمرجئة والجبرية وبعض الصفاتية الذين يأخذون بجزءٍ من موضوع الآيات، ويأوِّلون الجزء الآخر، فالجبرية أخذوا بالآيات التي ظاهرها الجبر، وأوَّلوا الآيات التي ظاهرها الاختيار والكسب، والقدرية كانوا عكسهم في الأخذ بآيات ظاهرها الكسب والاختيار وتأويل آيات ظاهرها الجبر، وهكذا غيرها من البدع التي ظهرت في الإسلام، إنما هي من باب التأويل جاءت، وفي المتشابه النسبي ـ كثيرًا ـ وقعت.

وقد فصَّل العلماء وجه جملة (يقولون آمنا به ... ) ووجه تعلقها بما قبلها على هذا الوجه التفسيري، ومن ثمَّ فلا يدخلها اعتراض ابن قدامه الذي ذكره، والتفويض الذي يقول به الراسخون في هذا النوع مناسب للحال التي تقع من أولئك الذين في قلوبهم زيغ فيتركون المحكمات الواضحات، ويأتون إلى المشتبهات الخفيات، فهؤلاء يؤمنون بمحكمه، ويكلون علم متشابه إلى الله، وليس في ذلك أنهم لا يعلمونه أو يعرفونه، بل هو من باب نسب العلم الذي علموه إلى الله الذي هداهم لمعرفته، وأضل غيرهم، وبهذا تظهر مناسبة قولهم على هذا الوجه التفسيري.

وإذا ظهر لك هذا النوع وبان، فإن من قال بأن الراسخين يعلمون التأويل، إنما ذهب إلى هذا النوع من المتشابه، ولا خلاف في أن الراسخين يعلمونه، وبهذا الكلام يتبين أمور:

1 ـ صورة اتباع المتشابه النسبي ابتغاء تأويله وابتغاء الفتنة.

2 ـ أن المتشابه النسبي يعلمه العلماء.

3 ـ أن التأويل على هذا الوجه بمعنى التفسير، والله أعلم.

4 ـ أن المتشابه النسبي يقابله المحكم، وهو الذي لم يقع فيه خلاف، أو لا يُتصوَّر فيه الخلاف، وهذا أحد أنواع المحكم الواردة في القرآن.

هذه بعض تلميحات في هذا الموضوع، أسأل الله أن يجعله خالصًا صوابًا، والله ولي التوفيق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير