تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأمثلةُ هذا النوع كثيرة منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: من الآية11) حيث اشتبهَ على أهلِ التعطيلِ، ففهموا مِنه انتفاءَ الصفاتِ عن الله تعالى، وادَّعوا أنّ ثُبوتها يستلزمُ المماثلةَ، وأعرضوا عن الآياتِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على ثبوتِ الصفاتِ لهُ، وأنَّ إثباتَ أصلِ المعنى لا يستلزمُ المماثلةَ.

ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93) حيثُ اشتبهَ على الوعِيديَّةِ، ففهموا مِنه أنَّ قاتلَ المؤْمِن عَمْدًا مُخَلَّدٌ في النارِ، وطَرَدُوا ذلكَ في جميعِ أصحابِ الكبائرِ،وأعرضوا عن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنّ كُلَّ ذنبٍ دونَ الشركِ فهو تحتَ مشيئةِ الله تعالى.

ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70) حيثُ اشتبهَ على الجبْرِيَّةِ، ففهموا مِنه أنّ العبدَ مَجْبُورٌ على عمله، وادَّعَوا أنه ليسَ له إرادةٌ ولا قدرةٌ عليهِ، وأعرضوا عن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنّ للعبدِ إرادةً وقدرةً، وأنّ فعلَ العبدِ نوعانِ: اختياريٌّ، وغير اختياريٍّ.

والراسخونَ في العلمِ أصحابُ العقولِ يعرفونَ كيفَ يُخَرِّجُونَ هذهِ الآياتِ المتشابهةِ إلى معنى يتلاءمُ مع الآياتِ الأخرى، فيبقى القرآنُ كُلُّهُ محكماً لا اشتباه فيه ". ()

وبهذا التقريرِ تتجلّى لكَ هذه المسألةُ؛ ولابنِ عطيّةَ رحمه الله كلامٌ نفيسٌ أنْقُلُهُ بِنَصِّهِ، حيثُ قالَ بعد عرضه لخلافِ السلفِ في قوله {وَمَا يَعْلَم تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}:" وهذهِ المسألةُ إذا تُؤمِّلَتْ قَرُبَ الخلاف فيها من الاتفاق.

وذلك أنّ الله تعالى قسّمَ آي ِالكتابِ على قسمين – محكمًا ومتشابهًا – فالمحكم هو المتّضحُ المعنى لكلِّ مَن يفهم كلامَ العربِ لا يحتاجُ فيه إلى نظر ولا يتعلّق به شيءٌ يُلْبِس، ويستوي في علمه الراسخُ وغيره، والمتشابه يتنوّع؛ فمنه ما لا يُعْلَم البتّةَ، كأمر الروح، وآحاد المغيّبات التي قد اعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلكَ، ومنه ما يُحمل على وجوهٍ في اللغةِ ومناحٍ في كلام العرب، فَيُتَأوّل تأويله المستقيم، ويُزال ما فيه مما عسى أن يتعلّق به مِن تأويلٍ غير مستقيم كقوله في عيسى ? {وَرُوحٌ مِنْهُ} (النساء: من الآية171) إلى غير ذلكَ، ولا يسمّى راسخًا إلاّ بأن يعلم مِن هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له؛ وإلاّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس يسمّى راسخًا وقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} (آل عمران: من الآية7) الضميرُ عائدٌ على جميع متشابه القرآن وهو نوعان كما ذكرنا، فقوله: {إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) مُقتَضٍ ببديهية العقل أنّه يعلمه على الكمال والاستيفاء، يعلم نوعيه جميعًا فإنْ جعلنا قوله {وَالرَّاسِخُونَ} (آل عمران: من الآية7) عطفاً على اسمِ الله تعالى، فالمعنى إدخالُهم في علمِ التأويلِ لا على علمِ الكمالِ، بل عِلْمُهم إنّما هو في النوعِ الثاني مِن المتشابه، وبديهة العقل تقتضي بهذا، والكلام مستقيمٌ على فصاحة العرب كما تقول: ما قام لنُِصرَتي إلاّ فلانٌ وفلان، وأحدهما قد نَصَرَكَ بأنْ حاربَ معكَ،والآخرُ إنّما أعانكَ بكلامٍ فقط، إلى كثير ٍمِن الْمُثُلْ، فالمعنى: {وَمَا يَعْلَمُ} تأويلَ المتشابه إلاّ الله والراسخونَ كُلٌّ بقدرهِ، وما يصلح له، والراسخونَ بحال () قول في جميعه آمنّا به، وإذا تحصّل لهم في الذي لا يُعلم ولا يتصوّر عليه تمييزه مِن غيره فذلك قدر مِن العلم بتأويله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير