تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيكون مأموراً أن يذكر المنتفعين بالذكرى، تذكيراً يخصهم بها، غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة (13).

· ((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى)):

14 - أي: استغنى بماله وقوَّته عن سماع القرآن والهداية والموعظة؛ فأنت له تصدى، أي: تتعرض بالإقبال عليه، وتصغي له، رجاء أن يسلم ويهتدي!

15 - ويدخل فيه هذا المعنى: أنه استغنى عن الله؛ فترك عبوديته جانباً، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها، ولا فلاح إلا بأن يكون محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه (14).

وهذا هو الاستغناء المذموم الناتج عن جهلين:

أحدهما: جهل العبد بربه.

والثاني: جهله بمعرفة نفسه، فهذا الاستغناء: إما أن يكون في رؤية غنى نفسه لجهله بها؛ وهذا موجبه طغيان العبد؛ كما قال – تعالى – ((كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى) أي: جعل الطغيان ناشئاً عن رؤيته غنى نفسه.

وأما أن يكون في استغنائه عن ربه بترك طاعته وعبوديته؛ وهذا موجبه الهلاك، وعدم تيسيره لليسرى، كما قال – تعالى –: ((وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى)).

والآية في سورة عبس: جمعت بين الأمرين الناتجين عن الجهل بالله تعالى والجهل بالنفس، فالاستغناء عن الله؛ سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه؛ سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر والعبودية (15).

· ((وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى)):

16 - وفيها قطع الطمع وبتر الرجاء عن هداية وتزكية كل الخلق؛ لأن هذا حرص زائد على القدر مُفوّت لمصالح جمة، قال الرازي في تفسير الآية: "أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم ".

17 - وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفار لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً.

· ((وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى)):

18 - أي: وصل إليك حال كون مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده، وتعظه بمواعظ الله (16).

فالآية: أثبتت له سعياً وقصداً في تحصيل المطلوب، وهذا السعي؛ يبعث على المقصود والمطلوب قصداً وطلباً، وعلى الخلق دعوة ونصحاً وحرصاً؛ كما قال تعالى: ((وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)).

19 - وذِكرُ السعي زائداً على قدر المجيء، فيه إشعار بمدحه من جهة أن السعي فيه معنى الإسراع والإقبال، وهذا شرط في تحقق الإنابة.

فالإنابة تتضمن أربعة أمور: محبة الله، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.

والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، والراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه؛ فهذا الذي جاء يسعى، جاء منيباً مقبلاً على تحصيل المطلوب، ولما كان حاله كذلك؛ فإن رجاء تذكره حاصل لا محالة؛ لأن الإنابة قرينة التذكر وسبب في تحصيل الخشية، فقال تعالى: ((وَهُوَ يَخْشَى)).

20 - والخشية: خوف مقرون بمعرفة؛ أي: معرفة جامعة بالله رباً ومعبوداً وبأسمائه وصفاته، وبشرعه: أمره ونهيه، وبوعده ووعيده.

والخشية تكون لمن عنده علم، قال تعالى: ((يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً".

21 - والخشية هنا مطلقة؛ أي: يخشى الله تعالى، ويخشى عذابه، والجملة حال من فاعل ((يَسْعَى))، كما أنه حال من فاعل ((جَاءكَ)).

أي: فحاله عند المجيء الإقبال والإسراع مع الخشية والخوف، وهذا ثناء عليه من جهة علمه؛ لأن صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، وثناء عليه من جهة عمل قلبه؛ لأن الإنابة من أخص أعمال القلوب.

فاجتمعت له صحة القوة العلمية وصدق القوة العملية الإرادية.

22 - فقُرن في هذا السياق بين الخشية والإنابة، والثانية قرينة التذكر، فيكون الأمر أيضاً من باب قرن الخشية بالتذكر، كما قال تعالى: ((سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) وكذلك قرن الإنابة بالتذكر كما قال تعالى: ((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ) فاجتمعت لهذا الساعي إلى سبيل الرشاد: التذكر والإنابة، والخشية فضلاً عن التزكية؛ فتأمل.

· ((فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)):

أي: فأنت تتشاغل بغيره وتعرض عن الساعي إلى سبيل الرشاد.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير