وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك، واستحسنه السائل، واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، ولما يحتاج إليه من علم. فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته المجاز، وسألت عن الرجل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه يقال له إبراهيم بن اسماعيل بن داود الكاتب" (ص12).
وهذا الذي حكاه أبو عبيدة يلفتنا إلى أمور نرى من الفائدة ذكرها وهي التالية:
1 ـ أن أبا عبيدة ألف كتاب المجاز سنة 188 هـ، وهذا يعني أنه سابق لكتاب الأخفش الأوسط الذي اعترف بأنه أفاد منه في كتابه "معاني القرآن"، كما سيرد في حينه، كما أنه أسبق من كتاب الفراء الذي ألف مابين (202 ـ 204هـ).
2 ـ إن الدافع لتأليفه هو سؤال إبراهيم بن إسماعيل بن داود أحد كتاب الوزير الفضل بن الربيع، ولم يكن هذا الكاتب ممن عرفوا بالفصاحة والحذق وسعة الاطلاع على العربية ومذاهبها من أفواه أصحابها الذين ارتحل إليهم علماء العربية، فدرسوا اللغة عليهم في مواطنها، وإنما كان ـ فيما يبدو ـ ممن تعلم العربية تعلماً مدرسياً كما كانت تعلم في المدن، فعرف القواعد الدقيقة التي تنسرب اللغة فيها، من غير أن يدرك الأوجه المختلفة التي تستعمل فيها مفردات العربية التي تتمرد على كل القواعد الصارمة التي يجب أن تخضع لأحوال استعمال المفردات لا أن تخضع هذه المفردات لتلك القواعد (13)، التي كانت تدرس في مجالس النحاة واللغويين. "وغني عن البيان أن أي قاعدة نحوية أو لغوية تضيق دائماً عن إمكانات الواقع الحي للغة وثرائه، ويظل من يتعلم اللغة ولفترة طويلة جداً في حدود القواعد والحدود، دون أن يتجاوز ذلك إلى رحابة الأساليب الفنية للغة" (14).
"فالفكرة التي تراود أبا عبيدة وهو يؤلف كتابه كانت فكرة مدرسية، يحاول أن يضع أمام طبقة المستعربين صوراً من التعبير في القرآن وما يقابله من التعبير في الأدب العربي شعراً ونثراً ويبين ما فيها من التجاوز أو الانتقال من المعنى القريب أو التركيب المعهود للألفاظ والعبارات إلى معان وتراكيب أخرى اقتضاها الكلام. فكلمة مجاز عنده إذاً ليست مجرد مقابل لكلمة تفسير أو كلمة معنى بصفة مطلقة. وإن هذا لا ينفي إطلاقها أحياناً في ذلك المعنى". (15).
فهو قد سماه بـ"المجاز" انطلاقاً من هذا المعنى لأن "جاز الموضع جوزاً ... ومجازاً ... سار فيه وخلَّفه ... والمجاز الطريق إذا قطع من أحد جانبيه إلى الآخر. وخلاف الحقيقة". (16).
والمجازة الطريقة، والمادة ومشتقاتها تعني الانتقال بوجه عام، ومنه التجوز في الشيء: الترخص فيه (17).
وقد وضح لنا مراده هذا منذ الصفحة الأولى وما تلاها عندما شرح معنى كلمة قرآن ولماذا سمي القرآن بهذا الاسم فقال:
"القرآن: اسم كتاب الله خاصة، ولا يسمى به شيء من سائر الكتب غيره، وإنما سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن. قال الله جلَّ ثناؤه: (إن علينا جمعه وقرآنه ([القيامة: 17]. مجازة: تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال: (فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ([القيامة: 18]. مجازه: فإذا ألقينا منه شيئاً فضممناه إليك فخذ به واعمل به وضمه إليك وقال عمرو بن كلثوم في هذا المعنى:
ذراعي حرة أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تضم في رحمها ولداً قط ... وفي آية أخرى: (فإذا قرأت القرآن ([النحل: 98]، مجازه: إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه يصير إلى معنى التأليف والجمع" (18). ثم يأتي على معنى الفرقان ومجاز السورة فالآية (19) مما يتصل بمعارف عامة في القرآن، ثم يصرح بالدافع الذي جعله يؤلف كتابه فيبين أنه لم يضعه للعرب الفصحاء وإنما لعامة الناس ـ بما فيهم الأعاجم ـ الذين شعر أبو عبيدة بحاجتهم إلى فهم القرآن وإدراك معانيه، والإلمام بأساليبه الجارية على خصائص الكلام العربي من زيادة وإضمار وحذف واختصار وتقديم وتأخير وما جاءت مخاطبته مخاطبة الغائب ومعناه مخاطبة الشاهد، وما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد، ثم تركت وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قال: "فلم يحتج السلف ولا الذين أدركوا وحيه إلى النبي (أن يسألوا عن معانيه لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة عن معانيه وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه
¥