والتلخيص .... ". (20)، ثم يضرب أمثلة مختلفة من القرآن على أنواع المجاز التي ذكرنا (21)، ثم يشرع بتفسير آيات من كل سورة بحسب ورودها في القرآن حتى يأتي على جميع السور (22).
ولعل هذا ما حدا أحد الباحثين على أن يعد أبا عبيدة في كتابه المجاز نحوياً رائداً تجاوز وقوف النحاة على حركات الإعراب وانشغالهم بها زمناً طويلاً ليتناول بحسه طرق التعبير، ويكشف من سر العربية ونظم تأليفها ما يتجاوز آخر الكلمة وحكم إعرابه. بيد أنه لم يكثر ما أكثر سيبويه وجماعته، ولم يتعمق ما تعمقوا، ولا أحاط إحاطتهم. ولكنه دل على سبيل تبصرة انصرف الناس عنها غافلين (23).
3 ـ وأما الأمر الثالث الذي يلفتنا إليه جواب أبي عبيدة فهو أنه يرد المثال القرآني الذي سئل عنه إلى طريقة العرب التي نزل القرآن عليها فيجعل من ذلك منهجاً له في الكتاب. ودليل ذلك أنه يقول:
"نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أن "طه" بالنبطية فقد أكبر، وإن لم يعلم ماهو، فهو افتتاح كلام وهو اسم للسورة وشعار لها. وقد يوافق اللفظ اللفظ ويقاربه ومعناهما واحد وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها. فمن ذلك الاستبرق بالعربية، وهو الغليظ من الديباج، والفِرِند، وهو بالفارسية استبره، وكَوز وهو بالعربية جوز، وأشباه هذا كثير". (24).
وفي ذلك طرف من القضية اللغوية الهامة التي أثارها القرآن على أقلام علماء العربية الذين انقسموا في ألفاظه بين فريق رافض لفكرة وجود أية ألفاظ غير عربية في القرآن معتمداً على تفسير لظاهر الآيات التي تعرضت للسان الذي جاء به التنزيل من مثل قوله تعالى: (ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ((25). [فصلت:44]. وفريق آخر رأى أن العرب خالطوا سائر الألسنة فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن (26). وبين الرأيين رأي ثالث اتخذ منحى توفيقياً فقال بوجود كلمات يسيرة غير عربية دون أن تخرج القرآن عن عربيته (27).
وعلى هذا يكون أبو عبيدة من أصحاب الرأي الأول، وعليه بنى منهجه في الكتاب كله، بمعنى أنه يحاول شرح لفظ أو تركيب، ثم يستشهد على صحته بآية أو حديث في المعنى نفسه أو كلام العرب الفصيح، كالخطب والأمثال والأقوال المأثورة، وفي أغلب الأحيان بأبيات من الشعر القديم وخاصة الرجز منها، ويحرص دائماً على أن يؤكد صلة أسلوب القرآن بأساليب العرب، فيذكر في ختام كلامه أن "العرب تفعل هذا".
وبعد، فمجاز القرآن كتاب تمتزج فيه اللغة والبلاغة والنحو، وكذلك كان الأمر في تراثنا القديم، حيث كانت الدراسة البلاغية متداخلة مع الدراسة اللغوية في كتب النحاة الأوائل أمثال سيبويه حتى عده بعض الباحثين واضع علمي المعاني والبيان (28). ورأى أن أبا عبيدة في كتابه "مجاز القرآن"، لم يفعل أكثر من أنه سلك مسلك سابقيه من اللغويين من ربط النحو بالأساليب والتراكيب، على عكس ما فعل المتأخرون حيث قصروه على أنه علم يعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء (29). وقد بينا ذلك حين تحدثنا عن المقصود بكلمة "مجاز".
على أن ذلك لا يمنع أن نرى في أبي عبيدة، نظرياً، رجل لغة أولاً، وبلاغة ثانياً، ونحو ثالثاً كفنان يلم بألوان الفن، ولكنه يبرع في رسم الوجوه وكشف ملامحها بأفضل من محاولته مع المناظر الطبيعية، ويتقن رسم الطبيعة بما لا يتوافر له مع اللوحات التجريدية.
أولاً: أبو عبيدة اللغوي:
لا يخفى على كل ذي نظر متأمل في كتاب "المجاز" أن صاحبه لغوي في المقام الأول، عليم بلغات العرب وغريبها، يوجه اهتمامه الأول عند التفسير إلى شرح ما يراه يستحق الشرح من مفردات القرآن، مستعيناً ببعض الآيات المماثلة أو فصيح الكلام، من غير أن يغفل الاستشهاد بالشعر القديم، وخاصة الرجز الممتلئ بأوابد اللغة وشواردها (30). وقد يحدد نوع الكلمة ووزنها (31)، وكثيراً ما يبدو ذا حس لغوي مرهف ومثال ذلك إدراكه فرق المعنى بين كسر العين وفتحها في كلمة "عوج" في الآية: (تبغونها عوجاً ([آل عمران: 99]. إذ يقول: مكسورة الأول لأنه في الدين، وكذلك في الكلام والعمل، فإذا كان في شيء قائم نحو الحائط، والجذع، فهو عوج مفتوح الأول (32)، ويستطرد في شرح مفردة
¥