لا علاقة لها بالآية، كان يشرح اسم صاحب الشاهد الشعري (33)، أو مفردة من الشاهد (34)، أو من كلامه، ويأتي لها بالشاهد مما يدل على تبحره باللغة فمن ذلك مثلاً شرحه الآية: (قاتلهم الله ([التوبة: 30]، قتلهم الله، وقلما يوجد فاعل إلا أن يكون العمل من اثنين، وقد جاء هذا ونظيره ونِظْره: عافاك الله، والمعنى أعفاك الله، وهو من الله وحده والنظر والنظير سواء مثل ندّ ونديد، قال:
ألا هل أتى نظري مليكة أنني" (35).
وقد أشاد الطبري بهذا التفسير (36)، كما أقر في مواضع كثيرة من تفسيره ببصر أبي عبيدة بكلام العرب ونقل عنه (37)، وبعد ذلك يحق له أن يسن القواعد اللغوية (38)، وأن يكون له تفرده فيخالف غيره من العلماء في بعض أمور اللغة كالفراء والكسائي (39). ويكون له مذهب في التفسير (40).
وربما مر بتعليل حركة كلمة فقال: "زعم النحويون" (41)، وكأنه يقر أنه لغوي أولاً، واهتمامه بالنحو محدود لأنه يذكر رأيهم فلا يعلق عليه. ومما يؤكد ما نذهب إليه قول صاحب اللسان: "وقال الأزهري: أبو عبيدة صاحب بالغريب وأيام العرب وهو بليد النظر في باب النحو ومقاييسه". (42).
ثانياً: أبو عبيدة البلاغي:
لقد سبق وعرفنا أن تأليف كتاب المجاز كان بسبب مسألة بلاغية في القرآن، تتعلق بالتشبيه (طلعها كأنه رؤوس الشياطين ([الصافات: 65]، فلا غرابة أن نجد أن أبا عبيدة يهتم بإيضاح المسائل البيانية الموجودة في القرآن، ويجد لها ما يماثلها في كلام العرب وأساليبهم في التعبير، وقد صارت هذه المسائل فيما بعد مسائل في البيان العربي (43)، حتى وصل الأمر بالأستاذ إبراهيم مصطفى إلى أن وجده أسبق من الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، في وضع أسس علم المعاني الذي فصله النحاة فيما بعد عن معاني النحو فأزهقوا روح الفكرة (44)، كما عده آخر أول من كتب في علم البيان (45).
ولا بد من التدليل على هذا الكلام فنحدد ما جاء في الكتاب من أمور بلاغية، لأن كل كلام يفتقر إلى الدليل القاطع يبقى في حيز الافتراض فإليك البيان:
1 ـ المجاز العقلي حيث قال في قوله تعالى: (والنهار مبصراً ([يونس: 67]، له مجازان أحدهما: إن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل، والمعنى أنه مفعول، لأنه ظرف يفعل فيه غيره لأنه لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر، وفي القرآن: (في عيشة راضية ([الحاقة:21]. وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها، قال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى *ونمت وما ليل المطي بنائم
والليل لا ينام وإنما ينام فيه، وقال رؤبة:
"فنام ليلي وتجلى همي" (46).
ب ـ الكناية والتشبيه المصرح بهما من غير تفصيل في مثل قوله: (نساؤكم (47)، حرث لكم ([البقرة: 223]، كناية وتشبيه قال: (فأتوا حرثكم أنى شئتم (، [البقرة: 223]، (47). وفي بعض الأماكن يريد الكناية من غير أن يصرح باسمها (48) أما مجاز التمثيل فيعني عنده التشبيه أو تشبيه التمثيل كما في تفسير قوله تعالى: (على شفا جرف هار ((49)، [التوبة ـ 109].
ج ـ الاستعارة: وإليها يشير إشارة تفهم من خلالها (50) وقد يخلط بينها وبين التشبيه (51).
د ـ الالتفات: تنبه أبو عبيدة إلى هذا الأسلوب، وإن لم يسمعه، كأن يقول: "ومن مجاز ما جاءت به مخاطبة الشاهد، ثم تركت، وحولت مخاطبته هذه إلى مخاطبة الغائب، قول الله تعالى: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة (ـ[يونس ـ 22]، (أي بكم). (52).
هـ ـ الحذف والاختصار عند أمن اللبس للإيجاز. والإيجاز صفة محمودة من صفات الكلام عند العرب، والقرآن خير ممثل لهذه الصفة في أسلوبه، وقد أشار أبو عبيدة إلى كثير من مواضع الحذف في آياته فلنسمعه يقول في هذه الآية: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم (. [آل عمران: 106] "، العرب تختصر لعلم المخاطب بما أريد به، فكأنه خرج مخرج قولك: فأما الذين كفروا فيقول لهم: أكفرتم، فحذف واختصر الكلام، وقال الأسدي:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها *بني شاب قرناها تصر وتحلب
أراد: بني التي شاب قرناها، وقال النابغة الذبياني:
كأنك من جمال بني أقيش *يقعقع خلف رجليه بشنِّ
"بني أقيش"، حي من الجن، أراد: كأنك جمل يقعقع خلف رجليه بشن، فألقى الجمل، ففهم عنه ما أراد". (53).
¥