و ـ الإطناب: مثلما أحب العرب الإيجاز، فحذفوا عند أمن اللبس، لم يستنكروا الإطناب حين تدعو الحاجة إليه، كتوكيد بعض الكلام. وقد أشار أبو عبيدة إلى مكان الإطناب من غير تسمية، فقال: "ومن مجاز المكرر للتوكيد قوله تعالى: (يا أبت أني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (. [يوسف: 4]، أعاد الرؤية، وقال: (أولى لك فأولى ([القيامة: 34]، أعاد اللفظ"، (54).
ز ـ إدراك الفارق بين الخبر والإنشاء قوله تعالى: (لا تُضارُّ والدة بولدها ([البقرة: 233]. يقول: رفع، خبر، ومن قال: "لا تضارَّ"، بالنصب، فإنما أراد (لا تضارِرْ (. نهي (55)، ومعلوم أن النهي غرض من أغراض الإنشاء.
ح ـ خروج الإنشاء عن حقيقة معناه ليعبر عن معنى آخر يفهم من السياق كخروج الاستفهام إلى تقرير أمر ما، وهو ما يسمى بالاستفهام التقريري (56)، أو خروجه إلى معنى التحذير (57)، أو الإنكار (58). وكذا الحال في الأمر الذي يخرج معناه إلى الوعيد (59).
ط ـ التقديم والتأخير: يحدث في الجملة أن تتقدم كلمة على أخرى لغرض بلاغي، مما يكسب الكلام جمالاً وتأثيراً، ويجعل للتقديم والتأخير مكانة سامية في علم المعاني، وقد أشار أبو عبيدة إلى أماكنه في القرآن وتنبه إليها ولكنه لم يكن يذكر السبب البلاغي الذي حصل من أجله التقديم والتأخير (60).
ي ـ الكلام بالواحد على لفظ الجمع بغرض التفخيم. وكثيراً ما ردد أبو عبيدة أن العرب تتكلم بهذا أو تفعله. (61).
ولكن يجدر بنا بعد هذا البيان أن نشير إلى أن فهم أبي عبيدة للصورة البيانية بوجه عام لا يتعدى الفهم اللغوي، فهو يتعرض لكل الفنون البيانية المتعلقة بالأسلوب، ويعدها من المجاز اللغوي، وكثير من الاستعارات والتشبيهات في القرآن تدخل نطاق الحرج لأنها تتعلق بالذات أو بالعقيدة، أو بصورة البعث، وموقف أبي عبيدة من هذه جميعاً موقف اللغويين، يأخذ بظاهر القول إلى أمد محدود غايته المعنى المجازي القريب، وهو المذهب الذي عرفوا به (62)، ولكن استعماله للكناية في الدلالة على فن من فنون الأسلوب قريب من استعمال البلاغيين للدلالة على الاصطلاح البلاغي المعروف، "الكناية"، (63).
ثالثاً: أبو عبيدة النحوي:
بان لنا أن أبا عبيدة يوجه جل اهتمامه إلى اللغة ثم البلاغة ليكون الجانب النحوي عنده أضعف الجوانب، واحتفاؤه به قليلاً. ولا بأس علينا أن نتلمس شخصيته النحوية من خلال هذا القليل فنجده:
أ ـ لا يحتفي بإيراد وجوه القراءات احتفاء غيره بها، وأن أورد منها شيئاً فأحياناً يكتفي بوجه واحد (64)، وحيناً بوجهين (65)، ونادراً بثلاثة وجوه (66).
ب ـ إذا مر ببعض وجوه الإعراب مسَّها مساً خفيفاً من غير أن يقف عليها أو يتأملها بعمق نظر النحاة (67)، ويكاد النصب على المصدرية يشكل قاعدة لديه فكثيراً ما ذكر المصدر سبباً للنصب (68).
ج ـ يقول بالإعمال (69)، ويذكر العامل المحذوف أحياناً ليعلل حركة كلمة (70)، ولكن دون أن يبالغ في ذلك أو يتزيد أو يتمحل فعل متأخري النحاة.
د ـ له شخصية مستقلة ورأي حر، فلا يتقيد ـ وهو البصري ـ بمذهب أهل البصرة، فيستعمل أحياناً مصطلحاً كوفياً كالكناية التي يعبر بها الكوفيون عن الضمير (71)، وقد يعمم عليه قاعدة نحوية (72).
لماذا تألب على أبي عبيدة معاصروه؟
ما إن ألف أبو عبيدة كتاب "المجاز"، وذاع أمره حتى أحدث ضجة كبيرة في البيئات العلمية في البصرة والكوفة على السواء.
في البصرة كان الأصمعي يحمل لواء الحملة ويتهمه بأنه فسر القرآن برأيه فلما بلغ ذلك أبا عبيدة سأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فذهب إليه وسأله: أبا سعيد، ما تقول في الخبز؟ ... قال: هو الذي تخبزه وتأكله، فقال له أبو عبيدة: فسرت كتاب الله برأيك؟ ... قال: قال تعالى: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً ([يوسف: 36]. قال: الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي، فقال له أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كله شيء بان لنا فقلناه ولم نفسره برأينا (73).
¥