تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وانتقل هذا الحرج إلى أبي حاتم السجستاني الذي قال ـ وقد سئل عن كتاب المجاز: (إنه لكتاب ما يحل لأحد أن يكتبه، وما كان شيء أشد علي من أن أقرأه قبل اليوم، ولقد كان أن أضرب بالسياط، أهون علي من أن أقرأه)، ثم نازعته إليه نفسه فقرأه، والتقى بحمد بن المعذل فصار كل منهما يقول للآخر: "وقفني على خطأ أبي عبيدة في القرآن"، (74).

وكذلك ذهب أبو عمرو الجرمي بشيء منه إلى أبي عبيدة، وكأنه ينكره، وقال له: عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة فإن هذا تفسير خلاف تفسير الفقهاء؟ ... فقال له، وقد ضاق به: (هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم فإن شئت فخذه وإن شئت فدعه). (75).

أما في الكوفة فقد كان موقف علمائها أشد حدة مما ذكرنا، فهم أنكروا عليه ما ورد في تفسيره، وشنعوا عليه حتى قال الفراء: "لو حمل إلي أبو عبيدة لضربته عشرين في كتابه المجاز" (76)، وكثيراً ما قال في كتابه: "معاني القرآن"، "وقد قال بعض من لا يعرف العربية"، (77)، قاصداً أبا عبيدة.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الأسباب التي جعلت علماء البصرة والكوفة يقفون من تفسير أبي عبيدة موقف المنكر المستهجن؟ ...

لقد عزا بعض الباحثين الاختلاف حول كتاب المجاز في البصرة إلى الخصومة بين النزعة العقلية، والنزعة النقلية (78)، إذ كان مسلك أبي عبيدة في عدم التزامه بآثار السلف في التفسير، واعتماده على النزعة العقلية، والتفكير الحر والنظر الدقيق المستقل خروجاً على ما كان عليه علماء اللغة والتفسير الذين كانوا يتحرجون أشد الحرج ويلتزمون بآثار السلف (79)، على حين كان موقف علماء الكوفة من كتاب المجاز من أول الدلائل على العصبية القائمة بين البلدين (80).

بيد أنني، وإن كنت لا أنفي أن تكون الأسباب المذكورة وراء الحملة التي شنت على أبي عبيدة، إلا أنني أرى لهذه الخصومة سبباً أهم من كل ذلك، ولا أقدم عليه سواه، وهو سبب شخصي يتعلق بأصل أبي عبيدة وموقفه وأخلاقه، ذلك أنه ينحدر من أصل يهودي، وقد عرف بشعوبيته وطعنه على العرب، كما اتهم في أخلاقه، ومن ذلك قول بروكلمان: "ولد أبو عبيدة ... لأبوين رقيقين من يهود فارس من باجروان، وكان مولى لتيم قريش، وأخذ في شبيبته عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. ولا عيب عليه نسبه من العجم لحق بفرقة الصفرية من الخوارج، وحاول أن ينتقم لنفسه بتصنيف كتب في مثالب العرب على مذهب الشعوبية ... وهجاه أبو نواس بتهمة اللواط. ولما كتب كتاب المثالب، الذي نقل عنه ياقوت كرهه الناس فلم يحضر جنازته أحد من البصريين". (81).

ولعل هذا دليل على ماكان في شخصية أبي عبيدة من أسباب جعلت حتى جماعته البصريين يقفون منه هذا الموقف وينفرون منه ويحجمون عن المشاركة في تشييعه حتى انتقل إلى جوار ربه.

ولو كان الخلاف المعروف بين البصرة والكوفة السبب الأول والوحيد في موقف بعض علماء الكوفة من أبي عبيدة لوجب أن نجد لهذه الخصومة نظائر مع علماء بصريين آخرين كتبوا في تفسير القرآن على هذا المنحى، كالأخفش الأوسط أبي الحسن سعيد بن مسعدة المتوفى سنة 215هـ، الذي كتب كتاب "معاني القرآن"، (82)، في الفترة نفسها، والذي يعد من كبار علماء البصرة إذ أخذ النحو واللغة عن سيبويه (83)، غير أننا نرى أبا زكريا الفراء إمام مدرسة الكوفة بعد الكسائي يجله ويعترف بسمو مكانته العلمية في أمور اللغة بين علماء عصره، فقد روى ياقوت على لسان ثعلب (أن الفراء دخل على سعيد بن سالم فقال: قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا). (84).

على أن ما ذكرناه في شخصية أبي عبيدة لا يغض من مكانته العلمية ومنزلته الثقافية بحال من الأحوال فقد قال فيه الجاحظ: "لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة"، (85). وفي عهده وضعت أسس العلوم الإسلامية على ما اختلفت نواحيها من تفسير وفقه وأخبار، وكان أبو عبيدة يشارك في أنواع هذه الثقافة مشاركة جيدة. ونستطيع أن نتبين في كتبه جوانب من هذه الثقافة، فهي لغوية بما فيها من تفسير وحديث وغريب، وهي تاريخية تتناول مواضيع في تاريخ العرب وعاداتهم في جاهليتهم أحياناً وفي إسلامهم أحياناً أخرى، وقد تتجاوز ثقافته هذه الأمة العربية إلى عادات وأخبار لغير العرب (86).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير