(ولا شك عندي أن الإمام الطبري قد أصاب كل الإصابة في تحديد المنهج العلمي في طرق أبواب العقيدة؛ وعليه ظهر أثر تلك الإصابة في تفسيره ظهورا جليا؛
فمثلا: قد اعتبر رضي الله عنه النظر العقلي أساسا لدرك قواعد الاعتقاد في مسائل الإلهيات، وهذه الحقيقة ـ وهي أهمية النظر العقلي في المخلوقات وما يترتب عليه من نتائج ـ عضدها القرآن العظيم في آيات لا تحصى، بل أصلها وقررها، وترتب على ذلك الاعتبار نتائج مهمة ظهرت في المسائل المشكلة التي ناقش فيها الطبري المخالفين له).
ومن هذه المسألة المنهجية نبدأ، يا أبا عبيدة:
أين نص الطبري على ما ذكرته؟!
طبعا، لم تذكره أنت!! حسنا، فدعنا نذكره هنا من لفظه، ولا نحيلك على بحثنا (المحرف)، ليتبين أي الرجلين منا أولى بالكذب والتحريف:
قال الطبري رحمه الله:
(اعلموا رحمكم الله أن كل معلوم للخلق من أمر الدين والدنيا لن يخرج [المطبوع: أن تخرج] من أحد معنيين:
من أن يكون: إما معلوما لهم بإدراك حواسهم إياه، وإما معلوما لهم بالاستدلال عليه بما أدركته حواسهم.
ثم لن يعدو جميع أمور الدين الذي امتحن الله به عباده، معنيين: أحدهما توحيد الله وعدله، والآخر: شرائعه التي شرعها لخلقه من حلال وحرام، وأقضية وأحكام.
فأما توحيده وعدله: فمدركة حقيقة علمه استدلالا بما أدركته الحواس ... )
[التبصير في معالم الدين (112 - 113).
ثم قرر ما ذكره هنا في صفحات عديدة بعد ذلك، إلى نهاية الفصل (113 - 125)، وفي كل مرة يقرن بين: توحيد الله، وعدله؛ باعتبار ذلك من الأصول العقلية، التي لا يسع أحدا جهلها، ولا يعذر بالخطأ فيها!!
وهنا نسألك، أبا عبيدة، سؤالا معترضا، قبل أن نكمل البحث السابق:
هل أنت مقر ـ فعلا ـ بأن مباحث (العدل) هي من الأصول العقلية، ولا يعذر فيها أحد بالجهل أو الخطأ؟!
وإذا كان مذهبك: أن التعديل والتجوير ليس من مباحث العقول، وأن العقل لا يحسن ولا يقبح، ولا يوجب مراعاة الصلاح أو الأصلح، ولا يوجب لطفا، ولا حكمة ... ولا ... ؛ بل بعض متأخريكم يرى أن مسائل القضاء والقدر ـ برمتها ـ هي مسائل سمعية، وليست عقلية، كما قال في (الجوهرة):
وواجب إيماننا بالقدر وبالقضا، كما أتى في الخبر
قال شارحه: (وأشار المصنف بذلك إلى أن دليل ذلك سمعي؛ فمن جملة ما روي ...
وإنما عولوا على الدليل السمعي هنا، لأنه أسهل للعامة؛ وإلا فقد علمت مما مر أن القضاء والقدر يرجعان للصفات التي عولوا فيها على الدليل العقلي). [شرح البيجوري على الجوهرة (129)].
فمع من أنت ـ إذا ـ وبدون أن تراجع بحثي لهذا المفهوم عند ابن جرير، لأنه لا يليق بمقامك السامي؟!
لكن دعنا من هذه المزاحمات، أبا عبيدة الهاني، وتعال بنا إلى تتمة كلام الإمام الطبري في (أصول المعرفة) في مسائل الإلهيات، والذي لبَّست على القراء بأن عمدة الطبري فيها: النظر العقلي، وأوهمتهم أن مذهبه في ذلك هو نفس مذهب أئمتك.
حسنا، اقلب هذا الفصل، وانتقل إلى الفصل التالي له مباشرة، لتكتمل صورة الحقيقة التي أخفيت نصفها، لتخدع القراء عن مذهب الطبري، وتقدم لهم قراءة مغلوطة، على حسب زعمك وتعبيرك أنت؛ وفألك من فيك!!
يقول الإمام الطبري رحمه الله:
(القول فيما أدرك علمه من صفات الصانع خبرا، لا استدلالا)!!
إذا فنحن هنا أمام طريق آخر للمعرفة الإلهية، سوى العقل، وأن من هذه المعارف الإلهية ما لا يصلح الاعتماد فيه على العقل أصلا.
دعنا من الاستنباط، وتعال بنا إلى نص كلام الرجل، بعد ما ذكر بالفصل السابق له:
(ولله تعالى ذكره أسماء وصفات، جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رُوي عنه الخبر به: خلافه؛ فإن خالف بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر، على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حسا: فمعذور بالجهل به الجاهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالروية والفكرة.
¥