وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا بأنه سميع بصير [لاحظ أن السمع والبصر عنده صفات خبرية]، وأن له يدين، لقوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، وأن له يمينا، لقوله: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)، وأن له وجها، لقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)، وقوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، وأن له قدما، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع رب العزة قدمه فيها) يعني: جهنم.
وأنه يضحك إلى عبده المؤمن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم، للذي قُتل في سبيل الله: (إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه)، وأنه يهبط كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا، لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنه ليس بأعور، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الدجال، فقال: (إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور).
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس، ليس دونها غياية، وكما يرون القمر ليلة البدر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنه له أصابع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن).
فإن هذه المعاني التي وصفت، ونظائرها مما وصف الله عز وجل بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، مما لا تدرك حقيقة علمه بالفكر والروية، ولا نكفر بها أحدا إلا بعد انتهائها إليه.
فإن كان الخبر الوارد بذلك خبرا تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع: وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسامع.
وإن كان الخبر الوارد خبرا لا يقطع مجيئه العذر، ولا يزيل الشك، غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة، وجب على سامعه تصديقه في خبره، في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار الآحاد العدول، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته).
وبعد أن انتهى الطبري من تقرير الطريق التي تثبت به الحجة في هذا الباب، راح يبين معناها الذي يقول به، ليدلل على منهجه في ذلك من حيث الثبوت، ومن حيث الدلالة أيضا.
قال:
(فإن قال لنا قائل:
فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، والتي جاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: الصواب من هذا القول عندنا: أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات، ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه جل ثناؤه، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)؛ فيقال: الله سميع بصير، له سمع وبصر؛ إذ لا يعقل مسمى سميعا بصيرا، في لغة ولا عقل، في النشوء والعادة والمتعارف، إلا من له سمع وبصبر .....
فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار، والكتاب والتنزيل، على ما يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه، فنقول:
يسمع جل ثناؤه الأصوات، لا بخرق في أذن، ولا جارحة كجوارح بني آدم، وكذلك يبصر الأشخاص، ببصر لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارح لهم.
وله يدان، ويمين، وأصابع، وليست جارحة، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم عن الخلق، لا مقبوضتان عن الخير.
ووجه لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم.
ونقول: يضحك إلى من شاء من خلقه، ولا نقول: إن ذلك كشر عن أسنان.
ويهبط كل ليلة إلى السماء الدنيا ... ) إلى آخر كلامه، وسوف نعود إلى بعضه فيما بعد إن شاء الله. [التبصير (132 - 142)].
فلماذا كتمت ذلك كله، وبترت كلام الرجل، أو فكرته واعتقاده الذي يقرره، يا أيها المتباكي على الشجاعة المفقودة، والأمانة المضيعة؟!!
لست في حاجة هنا إلى أن أنقل ما كتبته عن موقف الطبري من الدليلين: السمعي والعقلي، في دراستي عنه، وأثقل عليك به، فلا بد أنك قرأته، وقرأته جيدا، قبل أن تثرب عليه، وترميه بما أنت أهله ومعدنه!!
¥