وحينئذ، فقولك الذي ذكرته آنفا: (وماذا لو يعلم البعض أن الطبري يقول ... ، وبأن تسلسل الحوادث بلا أول في جانب الأزل أمر مستحيل باطل ... ، النتيجة بلا شك عند ذلك البعض: إما التكذيب، وإما اتهام ذلك الإمام)،
أقول: كان ينبغي أن تضع هذا القول هنا، وتقول لي: إن الطبري قرر ذلك!!
لأقول لك: لم يذكره هنا، ولم يُحِل عليه، وهذا يكفيني في إبداء ملاحظتي!!
ثم أزيدك: لقد خيرتني ـ وأمثالي من المضلَّلين عن حقيقة الطبري ـ بين التكذيب، أو اتهام الإمام .. !!
فأقول لك: وأنا أختار الأول، فأكذبك في نقلك عن الطبري؛ فقد ثبت كذبك عليه مرارا، ومرارا؛ فما الذي يمنع ـ هذه المرة ـ أن تكون كاذبا أيضا؟ فأين قال ذلك؟
وأزيدك ـ أيضا ـ فأقول: أتحداك أن تذكر لي موضعا واحدا من تراثه كله، ذكر ذلك على وجه التقرير له، أو ارتضائه؛ فـ: (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)!!
خامسا: فإذا كان الدليل بصورته المذكورة، لم يقطع شبه الملحدة، وشغب الشاغبين، فإن الصورة الكاملة التي ذكرتموها في كتبكم الكلامية، ليست بأحسن حالا؛ فلا الإسلامَ نصرتم، ولا العدو كسرتم، ولا هي أظفرتكم بمطلوب، ولا أنجتكم من مرهوب؛ وأوقعتم أنفسكم في مهاوي ما لها من قرار، وكنتم كالمستجير من الرمضاء بالنار!!
ولهذا يقول أبو الوليد ابن رشد، الفيلسوف:
(وأما الأشعرية فإنهم رأوا أن التصديق بوجود الله تبارك وتعالى لا يكون إلا بالعقل، لكن سلكوا في ذلك طرقا ليست هي الطرق الشرعية التي نبه الله عليها، ودعا الناس إلى الإيمان من قِبَلِها ...
وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يسمونه الجوهر الفرد، طريقة معتاصة، تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل، فضلا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير برهانية، ولا مفضية بيقين إلى وجود البارئ ... )، فلينظر من شاء كلامه بطوله، فقد فصل أوجه انتقاد هذا الدليل [مناهج الأدلة (135) وما بعدها].
أعلم ـ يا هذا ـ أن خلقا من خلق الله سوف يقول لرب العالمين جل جلاله يوم القيامة: (يَا رَبِّ؛ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ؟ فيَقُولُ: بَلَى!! فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي!!) [صحيح مسلم (2969)]، ولأجل ذلك لم أنقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية حرفا واحدا في هذا المقام؛ لأني أعلم عداوة القوم له؛ فعلك أن تقول: وابن رشد، أيضا!!
فدع هذا، يا صاحبي، وأظنك تعرف أوحد المتكلمين، وسيف الدين، وخاتمة المحققين، هكذا في وصف الواصفين، وتراجم المترجمين؛ أعني به: الآمدي؟!
أتجيزه شاهدا، يا صاحبي؟!
فاسمع له يقول:
(وهذه الطريقة، وإن أمكن فيها بيان وجود الأعراض، وكونها زائدة على الجواهر، وإبطال القول بالكمون والانتقال؛ فقد يصعب بيان امتناع عرو كل جوهر عنها؛ بل وقد يصعب بيان حدث كل ما لا يعرى الجوهر عنه في وجوده من الحركات والسكنات.
وحدوث الحركة، وإن كان مسلما، فليس يلزم منه حدث ما بطل به من السكون؛ بل من الجائز أن يقول الخصم بقدمه، وأنه لا أول له، وفواته لا يدل على حدثه، وإن دل على أنه لم يكن له ذلك لذاته ....
وليس يلزم من كونه متعلق الإرادة، ومقتضى القدرة أن يكون حادثا، كما لا يلزم أن يكون قديما، بل القدم والحدث إنما يعرض لما هو متعلق الإرادة والقدرة بأمر خارج عنهما!!
هذا كله، إن سلم كون السكون أمرا وجوديا، ومعنى حقيقيا.
وإلا، فإن سلك القول بكونه أمرا سلبيا، ومعلوما عدميا؛ فإنه لا معنى له إلا عدم الحركة، ولا يلزم من القول بإبطاله بوجود الحركة، أن يكون هو حادثا؛ بمعنى أن له أولا؛ إذ الأولية لا تتحقق إلا بعد الوجود.
وإن سلك ذلك، لزم منه القول بسبق العدم على الوجود، والوجود على العدم، إلى ما لا يتناهى؛ وفيه القول بقدم الحادث قطعا، وعند ذلك: فالطريقة تكون منصوبة لنقيض المأخوذ!!
... وليس المقصود غير الإنصاف، وتجنب طريق الاعتساف، وإلا لما اهتممت بالكشف عن هذه العورات، ولا الإبانة عن هذه الغمرات، وهو إنما يعرفه الفظن الثبت الواعي، لا الجاهل العنيد المتعامي!!!) انتهى.
¥