[غاية المرام في علم الكلام، للآمدي (262 - 263) ت: د. الشافعي، ط الثانية، القاهرة (1431هـ)].
ولهذا يقول إمامكم المحقق المتأخر، المتحرر: الإمام محمد عبده:
(وأنا أقول ـ على استدلال القوم على إثبات القديم الصانع ـ إنهم اعتمدوا فيه على بطلان التسلسل،
وليس لهم برهان على بطلانه إلا ما سبق: من التطبيق، والتضايف، وما يشبههما.
وقد علمت في بحث الحدوث ما عليهما.
فإلى الآن:لم يقم دليل على بطلانه!!
فبقي فرض التسلسل في إثبات الواجب محتملا، لم يبطل؛ اللهم إلا بدليل جديد؛
ولا يليق بالعقلاء انتظاره ممن لا يقدر عليه!!).
[حاشيته على شرح الدواني على العضدية (1/ 250 - 251)].
سادسا: ومن تتمة ذلك، أسألك يا صاحبي عن قولك، وأنت تُعرِّض بي وبأمثالي ممن لا يعرفون مذهب ابن جرير: (وبأن الله تعالى لم يزل قادرا في الأزل مع عدم العالم، وغير ذلك مما تنبني عليه أصول وأصول)!!
شكرا لك يا صاحبي، وأنا، وكل موحد، يقول بأن الله تعالى لم يزل قادرا على كل شيء، وهذه كلية محفوظة، لم يخصها شيء، خلافا لمن زعم منكم ـ أو من غيركم ـ بأن العقل قد خصها!!
لكني دعني أداعبك بعض الشيء، إن كنت تقبل مني شيئا من ذاك:
هل أنت متأكد حقا من أنك تقول ذلك: أن الله تعالى لم يزل قادرا على كل شيء؟!
أرجوك، لا تعرض عن الجواب لسهولته، واعتبرنا في مقام الجد، ودع ما قلت لك من أني أداعبك؛ فأنا الآن جاد كل الجد؟!
هل تقول بإن الله لم يزل على كل شيء قديرا؟!
أعتقد أنك لن تفكر، ولن تتردد: نعم، بلا شك!!
حسنا يا صاحبي، دعني أطرح عليك السؤال من الجهة المقابلة، من طرفه الآخر:
أتقول إن خلق العالم لم يزل ممكنا (لله)؟
أرجوك، لا داعي للعجلة، فأمامك وقت لكي تفكر في ذلك، وبإمكانك أن تستريح قليلا، أو طويلا، وبإمكانك أن تبلع ريقك، ومعه دلو ماء، إن شئت!! وبإمكانك أن تستعين بصديق، وبإمكانك أن تغلق الجهاز، وتؤجل الجواب إلى غد!!
حسنا؛ أنا أعلم أنك لن تقول: لا، وإلا أبطلت جوابك الأول، بأن الله لم يزل قادرا على كل شيء.
فأسألك عن اللحظة (ودعنا نسميها اليوم)، أسالك عن اليوم الذي خلق الله فيه العالم؛ أكان يمكن أن يخلقه قبل ذلك بـ (يوم)؟
أنا أعلم أنك لن تقول: لا؛ وإلا أبطلت جوابك الأول، وجوابك الثاني.
فأعود وأسألك، وهذا اليوم الثاني: أكان يمكن أن يخلق العالم قبله بيوم ..
وكلما أجبتني بنعم، عدت فسألتك حتى نتعب .. ، وهذا هو القول بجواز تسلسل الحوادث؛ أنه ما من لحظة خلق الله العالم فيها، إلا ويجوز أن يخلقه الله قبلها، وهكذا، ليس هناك لحظة في الأزل كان الخلق ممتنعا على الله!!
وحنيئذ، فقد بطل مذهبك في (حوادث لا أول لها)!!
وإن قلت: لم يكن ممكنا!!
قلت لك: دعنا من أنك بهذا قد أبطلت جوابك الأول، وسوف أفترض أنا عدنا إلى رأس المسألة، وأن هذا هو جوابك الأول؛
ففي أي لحظة امتنع هذا الإمكان؟
دعنا، من تحديد اللحظة، وافترض ما شئت من (الأيام)، فهذا هدم لما قررته من أن الله كان قادرا في الأزل، مع عدم العالم!!
فإن قال لك صديق متكايس: إن خلق العالم قبل الوقت الذي خلقه الله فيه كان محالا؛ والمحال لا تتعلق به القدرة، وفرحت بأن هذا لا يناقض ما قررتَه؟!
قلت لك: حسنا يا صاحبي، والمحال أيضا لا ينقلب ممكنا، فكيف إذا وجد؟!
فإن تبرعت، وقلت لك: إنه لم يكن محالا للذات؛ بل لأمر خارج عنه، فلا مانع من أن يصير ممكنا؟!
فسأسألك يا صاحبي: ما هذا الأمر الخارج الذي كان لأجله محالا، والفرض أننا في حال العدم؟
ثم أسألك يا صاح [إن كنت لسه صاحي]: وما الذي صيره ممكنا، بعد أن لم يكن ممكنا؟!!
لم تجيبوا عن هذا يا صاحبي بشيء ينفعكم ولا يشفي عللكم، ويستر عوارتكم، على حد قول الآمدي؛ فانظر ما قاله ابن رشد عليكم في ذلك في مناهج الأدلة (135 - 137)، ولا أطيل عليك بنقله، فإنك ـ على قاعدة من ذكرنا ـ لن تقبل من غيرك شاهدا؛ فتعال بنا نعود إلى ما يقرره الشيخ محمد عبده:
(فأي مرجح لإرادة اللاأزلي، دون الأزلي؟ إن هذا إلا الترجيح بلا مرجح، وإنه محال؟
فإن قلت: إن نفس الإرادة هو المرجح.
¥