قلت: هذا وهم؛ فإن المختار، لدى الاستواء، يقع في الحيرة [كذا قال]، حتى يبدو له المرجح.
ثم إني لا أطيل معك في هذا، فإن لما أنت عليه من التمويه والانخداع للعادة في هذا المحل، مجالا باطلا)!! [حاشيته على الدواني (1/ 62 - 63)].
ثم خذ هذه القصة، أو المناظرة، لفخركم، وإمامكم عند إطلاق المتأخرين من المتكلمين؛ فخر الدين الرازي:
(لما ذهبت إلى سمرقند ....
فاذكر الدليل على فساد القول بحوادث لا أول لها.
فقال: الدليل عليه أنه لو لم يكن لها أول، لكان قد دخل في الوجود ما لا نهاية له، ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال.
قلت: ما الذي عنيت بقولك: إنه لو كان لا أول للحوداث، لزم دخول ما لا نهاية له في الوجود؟ فإن عنيت أنه يلزم الحكم بدخول حادث قبل حادث، لا إلى أول في الوجود، فحينئذ يصير التالي عين المقدم، ويصير كأنك قلت: لو كان حادثا مسبوقا بآخر، لا إلى أول، لزم أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر لا إلى أول، وعلى هذا التقدير يصير التالي في هذه الشرطية عين المقدم، وهو فاسد. وإن عنيت بقولك ... سوى ما ذكرنا، فاذكره حتى نعرف أنه هل يلزم من ذلك المقدم هذا التالي، أم لا؟
فتغير وجه الرجل، وقال: لا حاجة بنا إلى تفسير، بل نقول: إن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال، على جميع التفسيرات، والعلم بامنتاعه ضروري!!
فقلت: على تقدير أن يكون المراد من دخول ما لا نهاية له في الوجود، هو كون كل واحد منهما مسبوقا بآخر، لا إلى أول، كان ادعاء دخول ما لا نهاية له في الوجود، عبارة عن ادعاء أنه يمتنع أن يكون كل واحد منهما مسبوقا بآخر، لا إلى أول؛ فهذا القضية إن كانت معلومة بالبداهة، فكيف شرعت في إقامة البرهان على إبطالها؟ لأن البديهيات غنية عن الدليل. وإن كانت غير بديهية، افتقرت إلى الدليل. ولما لم يكن لقولك: يلزم دخول ما لا نهاية له في الوجود، إلا مجرد كون كل واحد منهما مسبوقا بآخر، لا إلى أول، فحينئذ، يلزمك كون الدليل عين المدلول، وذلك باطل، لأن بمجرد تغير العبارة لا يحصل المطلوب.
ولما انتهى الكلام إلى هذا المقام، وقف، ولم يذكر شيئا آخر البتة.
ثم قلت: وههنا مقام آخر، أهم مما ذكرناه، وهو أن نبحث عن كيفية محل النزاع.
وذلك لأنا نقول: إما أن ندعي أن لإمكان حدوث الحوادث أولا وبداية، وإما أن ندعي أنه لا أول لإمكان حدوثها، ولا بداية لصحة وجودها.
فإن قلنا إن لإمكان حدوثها أولا وبداية، فقبل ذلك المبدأ، لزم أن يكون إما واجبا لذاته، أو ممتنعا لذاته ثم انقلب ممكنا لذاته؛ فإن كان واجبا لذاته، لزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي، إلى الإمكان الذاتي، أو الوجوب الذاتي، وحينئذ ينسد باب إثبات العلم بالصانع.
وإن قلنا: إنه ليس لإمكان حدوث الحوادث أول، فحينئذ، قد سلمت أنها ممكنة الحصول في الأزل، فكيف تدعي مع هذا أنها ممتنعة الحصول في الأزل؟ فإن هذا يقتضي الجمع بين النقيضين، وذلك لا يقوله عاقل!! ....
فقال: العالم قبل دخوله في الوجود عدم محض، ونفي صرف، والعدم المحض، والنفي الصرف، يمتنع الحكم عليه بأن إمكانه ينتهي إلى أول، أو لا ينتهي إلى أول؛ فإذا امتنع هذا الحكم عليه، فقد سقط السؤال.
فقلت: هذا الكلام مدفوع من وجهين:
الأول: أنك تقول: كونه معدوما يمنع من صحة الحكم عليه، وهذا الكلام متناقض؛ لأن قولك: إنه يمتنع الحكم عليه، يفيد الحكم عليه بهذا الامتناع، والحكم عليه يوجب الجمع بين النقيضين، وأنه محال. [يعني: أن الحكم عليه، بامتناع الحكم عليه: تناقض محال].
الوجه الثاني: هب أن العالم معدوم فيمتنع الحكم عليه؛ أليس أن قدرة الله تعالى موجودة في الأزل، ولا شك أن الموجود يصح الحكم عليه، فنقول: صحة تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات: إما أن يكون لها أول، وإما ألا يكون لها أول. وحينئذ، يعود التقسيم بتمامه.
وعند هذا بقي الرجل ساكتا، عاجزا عن الكلام!!)
[مناظرات الرازي في بلاد ماوراء النهر، ت: د. فتح الله خليف (60 - 63)].
¥