وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس، ففرح المشركون بهذه الغلبة وشمتوا وقالوا للمسلمين: لقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم ولنظهرن عليكم فنزلت الآيات تصبيراً واستبشاراً للمؤمنين وقطعاً بوعد لن يخلف.
وقد صدرت الآيات بقوله تعالى، (غلبت الروم في أدنى الأرض) ويلفت النظر ههنا الإبهام والإستتار في الفاعل الحقيقي للغلب وهو الله عز وجل، وفي هذا دلالة واضحة إلى أن أسباب الغلب راجعة إليه لا إلى سواه، وفي هذا تفخيم لشأنه وقدره النافذ.
والملاحظ تأكيد القرآن على البعد المكاني (أدنى الأرض) وربما ناسب ذلك ما حصل للروم من انتكاس، ولا يبعد أن يكون (أدنى الأرض) معنوياً يتصل بما نتج عن ذلك من إذلال وانهزام مؤقت.
ثم يؤكد السياق القرآني بما لا يدع مجالاً للشك وهم من بعد غلبهم سيغلبون (في بضع سنين) إنه تقرير صارم لا مرد له، فالآية تدل على أن الروم سيقومون من بعد غلبهم أشد عوداً وأصلب قوةً من ذي قبل وسيغلبون عدوهم الفرس، وجاء تحديد المدة والبعد الزماني في هذا الصراع ـ من خلال استعمال حرف السين وهو حرف استقبال (سيغلبون) فلم يقل (سوف يغلبون) فالمدة أقصر مما يتصور حيث أن السين تشير إلى المستقبل القريب المنتظر، وفضلاً عن هذه الدلالة يأتي التصريح بالمدة الوجيزة في قوله "في بضع سنين" وكلمة بضع من ألفاظ العدد المحصورة بين الثلاث والتسع على ما يقرره علماء اللغة.
ولا ريب أن تراوح المدة في هذا العدد القليل من السنين، فيه إدخال للرهبة في قلوب المشركين في كل وقت، وأن زهوهم بأنفسهم واعتدادهم بقوتهم أمام الصحابة ليس إلا لحين يطول أو يقصر، ولكنه آيل إلى الانتهاء، ومفض إلى العاقبة الحتمية وهي الارتداد والانتكاس، فلا يخفى ما في الآية من تهديد سيُبقي المشركين من الفرس في ذعر وخوف وتوجس، ولو أن الفرس غلبوا في أول سنة ولم يكن ذلك في بضع سنين لهان الأمر، ولكنهم توعدوا بأمر لا يدرى، فهو في (بضع سنين) وهذا أشد من أن يأتي الأمر ويمضي دون تريث.
ولا شك أن إخبار القرآن بهذا الغيب المستقبلي هو دليل قاطع على التحدي القرآني في باب الإخبار عن الغيب وما يشتمل عليه المستقبل من حوادث سيكون لها تأثيرها على مسرح التاريخ الدولي آنذاك، ومن وجه آخر فإن قوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) فيه إثبات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإخبار عن الغيب لا يكون إلا بوحي.
وتتوالى السنون، ويتحقق وعد الله بغلبة الروم على الفرس في بضع سنين ولكن السياق القرآني يأبى إلا أن يربط ذلك بمسبب الأسباب (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله).
فالله عز وجل كامل السلطان والتدبير وكل الأسباب لا تكون إلا بأمره (لله الأمر) وقدم المتعلق (لله) على لفظ (الأمر) ليفيد ذلك الحصر والاختصاص وجاء لفظ الأمر معرفاً ليفيد ذلك استغراق الأمور أي كل الأمور أمرها إلى الله.
(ويومئذ يفرح المؤمنون) أي يوم إذ يغلب الروم الفرس يفرح المؤمنون بنصر الله وجاء الفرح بصيغة فعلية (يفرح) ليدل ذلك على الفعل الحركي والتجدد المستمر للفرح وانطلاقته بحسب مجريات الأحداث القادمة التي تبشر بها الآية.
والآيات السابقة آيات مكية نزلت في مرحلة الاستضعاف، فالراجح أنها نزلت قبل الهجرة بخمس سنوات، والآيات المكية لا شك هي أحوج ما تكون إلى تتبع المرحلة والظرف التاريخي اللذين ترعرعت بهما الدعوة الإسلامية، فقد تزامن نصر أهل الكتاب على المشركين بنصر المسلمين على المشركين يوم بدر في السنة الثانية للهجرة، من أجل ذلك"يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"، فلا بأس أن يفرح المؤمنون بانتصار الأعداء على بعضهم إذا التقى ذلك مع المصلحة العليا للمسلمين، فضرب المشرك بالمشرك أو الكافر بالكافر سنة إلهية قد يكون لها حكمتها في نصرة الفئة المؤمنة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، وحتى لو كان المقصود بالنصر في الآية نصر المسلمين في بدر على مشركي العرب من قريش فإن غلبة الروم على المشركين يصب في كفة الإسلام ودعوته على أي حال.
¥