والقرآن الكريم لم يقف بالمسلمين عند هذا الوعد ولا في حدود هذا الحادث، إنما كانت هذه مناسبة لينطلق بهم إلى آفاق أبعد، وآماد أوسع من ذلك الحادث الموقوت كي يربط دائماً وأبداً بين سنة الله في نصرة العقيدة السماوية والحق الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما من أجل الخروج من عزلة المكان والزمان والحادث إلى فسحة الكون كله ماضيه ومستقبله وحاضره.
ولعل هذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون في زماننا، ولا يهتمون لشأنها كما اهتم بها الأوائل في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم منذ حوالي أربعة عشر قرناً، ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية وجنسية ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان، وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وعند التأمل في السياق القرآني السابق نرى أن الغلبة التي هي القهر والتمكن نسبت إلى المخلوقين مع العلم يقيناً أن أمرها إلى الله ومنه (غلبت الروم) (سيغلبون) وفي سياقات أخرى أيضا من القرآن الكريم كقوله تعالى (وإن جندنا لهم الغالبون) "القصص: 173".
وقوله تعالى: (ونصرناهم فكانوا هم الغالبين) "الصافات: 116".
وقوله تعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) "البقرة: 249".
أما استقراء آيات النصر فإن النصر في القرآن نسب في أغلب وروده لله عز وجل في أكثر من أثنين وثلاثين موضعاً في القرآن منه قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح) "النصر: 1"
وقوله تعالى: (حتى أتاهم نصرنا) "الأنعام: 34".
وقوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) "الروم".
إلى غير ذلك من المواضع التي نسب فيها النصر إلى الله عز وجل، ولعل في هذا تفريقاً واضحاً بين مصطلح (الغلب) ومصطلح (النصر) فالمتأمل في سياقات الآيات يرى بجلاء أن ظهور الكافرين على المؤمنين أو ظهور الكافرين على الكافرين من أمثالهم لا يسمى في عرف القرآن نصراً بل يسمى غلباً وهو ظهور لغير المسلمين وهذا الظهور والغلب قد لا يقتضي الديمومة والاستمرارية من جهة، ومن جهة أخرى قد لا يقتضي تحصيل ثمرات مباشرة تجنيها الفئة المسلمة المؤمنة بل هي ثمرات بعيدة المدى مثلما حصل مع المسلمين في إجتناء ثمار يانعة فيما بعد، من جراء اصطراع أكبر إمبراطوريتين كانتا تحكمان الأرض في تلك الفترة.
أما ظهور المؤمنين على غيرهم فهو الظهور الذي له شأن عظيم فيسميه الله عز وجل نصراً، وهو نصر سرعان ما يؤتي أكله ولا سيما أن نتائج هذا النصر قد ظهرت في معركة بدر الكبرى، فإضافة النصر إلى الله في القرآن الكريم لا يكون إلا إذا كان هذا النصر مقترناً بنصر الفئة المؤمنة الصابرة المجاهدة، ومن وجه آخر فإن نسبة النصر إلى الله في القرآن فيها تنبيه صارخ على أن النصر والعزة والغلبة وكل ما يتمناه المسلمون إنما هو بيد الله، ومن تعلق بمجرد الأسباب فقد وجه لإيمانه طعنةً نجلاء مميتة، فالأسباب كلها تتلاشى أمام قوة الله (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر).
ومن هنا فتحقق النصر للعصبة المؤمنة يتم عن طريق عمل المؤمنين ودورهم في عالم الأسباب على قدر المستطاع مع تسليم الأمر كله لله، ثم نرى (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فهذا من الأمور الغيبية التي أخبر الله عز وجل بها، ولكن فريقاً زاغت بهم السبل فكذبوا بهذا الوعد فهم لا يعلمون عواقب الأشياء بل (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون).
وأما المؤمنون المتيقنون فقد سبق في كتاب الله عز وجل منذ الأزل أن النصر مؤكد لعباده المؤمنين، وأن هذه حقيقة نقرؤها في كتاب الله ونحن نرى مصارع الغابرين الذين وقفوا في وجه الأنبياء استكباراً وعتواً فأباد الله خضراءهم وأتاهم بأس الله من حيث لم يحتسبوا.
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون، إن في ذلك لبلاغاً لقوم عابدين) "الصافات: 173".
انتهى المقال.
ـ[عبدالرحيم]ــــــــ[11 Mar 2006, 08:48 م]ـ
أكرمكم الله أخي ..
قال تبارك وتعالى في سورة العنكبوت: " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) ".
قال ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ: " وميَّز " خمسين " بلفظ: " عاماً "؛ لئلا يُكرر لفظ: " سنة " ".
هل يُسوَّغ الاستدراك على قول الإمام الطاهر، بحجة أن (العام) بحسب عادة القرآن الكريم للدلالة على الخير والراحة، و (السنة) للدلالة على النصَب والشقاء؟
بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام:
لبث في قومه تسعمائة سنة من الشقاء ..
ثم بعد أن أفناهم الطوفان، لبث في الناجين منهم خمسين عاماً.
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[11 Mar 2006, 09:48 م]ـ
هل يُسوَّغ الاستدراك على قول الإمام الطاهر، بحجة أن (العام) بحسب عادة القرآن الكريم للدلالة على الخير والراحة، و (السنة) للدلالة على النصَب والشقاء؟
بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام:
لبث في قومه تسعمائة سنة من الشقاء ..
ثم بعد أن أفناهم الطوفان، لبث في الناجين منهم خمسين عاماً.
الحكم بأن ما ذكرت في التفريق بين السنة والعام هو عادة القرآن لم يتبين لي، وقد تتبعت المواضع التي جاء فيها ذكر اللفظين فلم يظهر لي صحة هذا التفريق، وإن كانت بعض السياقات تشهد له؛ غير أن الحكم بأنه عادة القرآن المطردة غير ظاهر.
اقرأ مثلاً: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (التوبة:126)
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11)
تتمة: وجدت عدة نقول في التفريق بين السنة والعام، وحتى لا يخرج الحديث هنا عن الموضوع الأصلي، جعلتها في موضوع مستقل هنا: الفرق بين السنة والعام ( http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?p=19589#post19589)
¥