بخلاف "أل" في "الجنة" في قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، فـ: "أل" في "الجنة" في هذه الآية: جنسية تستغرق عموم الجنان التي أعدها الله، عز وجل، لعباده المؤمنين يوم القيامة، بدليل إبدال: "جنات عدن" في الآية التالية: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) منها بدل كل من كل، و "جنات عدن": جمع معرف بالإضافة فيدل ابتداء على استغراق عموم الجنان، جعلنا الله، عز وجل، وإياكم من ساكنيها.
*****
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، فـ: "أل" في "اللهو" و "التجارة" للعهد الذكري المتقدم في: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا)، ويصح أن يقال بأنها: جنسية استغراقية، لأنها قابلت نكرتين في سياق الشرط: "تجارة" و "لهوا"، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق الشرط تعم، فيكون ما دل عليها، ولو بالعهد، عاما مثلها، لوجوب التطابق المعنوي بينهما، فيقال: "اللهو" و "التجارة": اسمان محليان بـ: "أل" الجنسية" التي تفيد العموم، وهذا ما يتناسب مع العموم المستفاد من "تجارة" و "لهوا" الواردين في سياق الشرط، لأن المحلى بـ: "أل" الجنسية، وإن كان معرفة في اللفظ، إلا أنه يؤول إلى الشيوع في المعنى، كالنكرة التي تدل على الشيوع، أيضا، فإذا ما جاءت في سياق الشرط صارت نصا في العموم، فقابل عمومها عموم الاسم المحلى بـ: "أل" الجنسية.
ومما يؤيد صيرورة المحلى بـ "أل" الجنسية إلى معنى الشيوع في النكرة، أنه نزل منزلتها في نحو:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ******* فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
فـ: "اللئيم": محلى بـ: "أل" الجنسية، فهو معرفة لفظا، كما تقدم، والقياس في الجملة التي تلي المعرفة: أن تعرب حالا، ومع ذلك أعربها النحاة في هذا البيت: نعتا، كالجملة التي تلي النكرة، فنزلوا المحلى بـ: "أل" الجنسية منزلة النكرة في دلالتها على الشيوع، فالمقصود هنا: جنس اللئام لا لئيم بعينه، وجنس اللئام، معنى شائع لا حصر له لاسيما في أزماننا هذه!!!!.
ويؤيد ذلك أيضا:
أن العبرة في النصوص بـ: عموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، فلا يحسن حمل "التجارة" في الآية على التجارة التي وفدت على المدينة، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم يخطب، فإن في ذلك قصرا لعموم النص على صورة سببه، والأصل في النصوص: العموم، كما تقدم، وغاية الأمر أن تكون الآية من قبيل: العام الوارد على سبب، وهو حجة فيما عدا صورة السبب، كما قرر الأصوليون، فالسبب لا يعدو كونه فردا من أفراده، وذكره في قصة نزول الآية من قبيل: ذكر بعض أفراد العام، و: ذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، وإنما هو من قبيل المثال عليه، فبه تعرف علة الحكم لتتعدى إلى بقية الأمثلة إما بنفس النص، أو بالقياس عليه، والخلاف لفظي، فالنص، في كلا الحالين، يشمل كل الأمثلة التي تتساوى مع المثال المذكور في تحقق علة الحكم فيها، وإنما ذكر تنبيها على البقية، فهو بمنزلة النائب عنها، ولو اشترطنا ذكر كل الصور المماثلة له في نفس النص الذي ورد فيه لنجري عليها حكمه لاحتجنا إلى آلاف الصفحات، ولما امتاز القرآن الكريم عن أي مدونة فقهية تذكر فيها أحكام الفروع تفصيلا.
*****
ومن ذلك أيضا:
"أل" في: "البيت" في قوله تعالى: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)، فهي للعهد الذهني، لأن المقصود بها أهل بيت بعينهم: إبراهيم الخليل عليه السلام وسارة رضي الله عنها.
وكذلك "أل" في "البيت" في قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، فالمقصود أهل بيت بعينهم: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزوجاته، أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، بقرينة: "وقرن" و "لا تبرجن" و "أقمن" و "آتين" و "أطعن" ..... إلخ، وإنما لم يقل في آخرها: "عنكن" لدخول سيد البيت صلى الله عليه وعلى آله وسلم معهن في إرادة الله، عز وجل، الشرعية، تطهير أهل بيت النبوة، بامتثال المأمور واجتناب المحظور فذلك لازم الإرادة الشرعية: إرادة افعل ولا تفعل، فتكون "أل" هنا، أيضا، للعهد الذهني، ولكنه عهد ذهني آخر غير المذكور في الآية الأولى، لاختلاف السياق، فهو العمدة في تحديد المعنى المراد.
وقد يراد به عهد آخر إذا ما دل عليه السياق، وهو: آل البيت، رضوان الله عليهم، ممن تحرم عليهم الصدقة، وقد حدهم أهل العلم بـ: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل، رضي الله عنهم جميعا، كما في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، فهذا عهد ثالث.
وأما "أل" في "البيت" في مثل قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)، فهي لعهد رابع، وهو: الكعبة: البيت الحرام كما دل عليه السياق فهو، كما تقدم، الفيصل في تحديد العهد المراد.
والله أعلى وأعلم.
¥