التقسيم الاصطلاحي يبدو شديد التداخل، فهي، كما قلت: ذهنية، لأن الذهن لا ينتقل من ظاهر الكناية إلى المراد منها إلا إن كان عنده تصور سابق عن مقصود المتكلم منها، فهي أشبه ما تكون بالأمثال الجارية على الألسن، فقد يفهم المصري من أمثال بلده، التي تجري مجرى الكنى، ما لا يفهمه المغربي، لتداول المعنى وحضوره في ذهنه، بخلاف المغربي، الذي يجهل مرادات أهل مصر، وإن كان يفهم لغتهم إجمالا، والعكس صحيح، فتلك كهذه.
والعهد الذكري، كما تفضلت، يكون المعهود فيه قريب الذكر، فلا يستدعي إلا مجرد إشارة إليه، لقرب العهد به، ولعل من أشهر شواهده القرآنية: "أل" في "الزجاجة" في قوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ)، فلم يفصل بين "أل" العهدية والمعهود الذي تدل عليه أي فاصل، فالعهد قريب جدا، بل يكاد يكون حاضرا ماثلا في ذهن القارئ أو المستمع.
ومن الأمثلة التي تتعلق بالموضوع الأصلي لهذه المداخلات:
قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ):
فإن: "الأشهر الحرم" تحتمل أحد معنيين:
الأول: الأشهرَ الحرم المعهودة: رجب الفرد وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فتكون "أل": للتعريف.
أو: "الأشهر الحرم" التي تقدم ذكرها في قوله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ):
فتكون "أل" للعهد الذكري، لتقدم ذكرها، وهي الأشهر التي أُجِل المشركون ممن لا عهد لهم، أو لهم عهد أقل من أربعة أشهر، إلى آخرها، بخلاف من له عهد مؤقت بأكثر من أربعة أشهر، فيوفى له عهده، كما اختار ذلك جمع من المفسرين.
وهذا اختيار ابن كثير، رحمه الله، إذ يقول:
"والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ} أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم، وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة". اهـ
"تفسير القرآن العظيم"، (4/ 53)، طبعة الشعب.
فإن في حملها على الأشهر الحرم المعهودة يلزم منه أن مدة سياحتهم في الأرض لن تتجاوز خمسين يوما، لأن هذه الأذان، أُذِنَ به يوم النحر، فيكون بينه وبين نهاية المحرم: خمسون يوما: عشرون من ذي الحجة، وشهر المحرم، وهذا خلاف النص الذي قدر العهد بـ: أربعة أشهر.
فحملها على المذكور سابقا أولى من هذه الوجه، فتكون "أل" فيها للعهد الذكري.
فضلا عن كون الأشهر الحرم المعهودة سيأتي ذكرها في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)، فالقول بأن أشهر العهد المضروب في الآية الأولى هي نفسها: الأشهر الحرم في الآية الثانية حمل للكلام على التكرار توكيدا، بخلاف حمل الأول: على معنى، والآخر على معنى مغاير، ففيه تأسيس لمعنى جديد، وقد قرر أهل العلم في مواضع كثيرة: أن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التوكيد إذا احتملهما الكلام، إذ الأصل في نصوص الشرع: تأسيس معان وأحكام جديدة ما أمكن، فلا يصار إلى التكرار الذي لا يفيد إلا التوكيد إلا عند تعذر استنباط معنى جديد، كما قال أهل العلم في مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا)، فإنه يحتمل:
توكيد معنى الإيمان المذكور في جملة الصلة، وتأسيس: الأمر بالثبات على هذا الإيمان، فيكون فيه معنى زائد، يحسن ترجيحه من جهة إفادته معنى جديدا لم يفده التوكيد المجرد.
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أَسْلِمْ تَسْلَمْ، أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْن):
¥