تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقال بعض أهل العلم: معنى التحريم على النار هنا: تحريمهم عليها انتهاء، لا ابتداء، فتمس النار ابتداء من شاء الله، عز وجل، أن تمسه من عصاة الموحدين، فوعيده، جل وعلا، قد يتخلف، بموانع اصطلح أهل العلم على تسميتها بـ: "موانع نفاذ الوعيد"، فيعفو عمن شاء فضلا، ويعذب من شاء عدلا، عذابا غير مؤبد، كما تقرر من أصول أهل السنة، فأولئك يحرمون على النار بعد خروجهم منها، فلا تمسهم بعد ذلك، خلافا للمعتزلة الذين يوجبون على الله عز وجل إنفاذ وعيده في حق العصاة.

ونظير هذا الخلاف: الخلاف في أحاديث الوعيد بالحرمان من دخول الجنة على ذنوب مخصوصة كقطيعة الرحم، وإدمان الخمر، والدياثة، والنميمة.

فإن الجنة التي توعد أولئك بالحرمان من دخولها: جنة مخصوصة أعدها الله، عز وجل، لمن سلم من تلك الذنوب، كما اختار جمع من أهل العلم، فتكون "أل" فيها عهدية تشير إلى جنان مخصوصة بعينها لا جنس الجنان الذي يدخله كل موحد، وإن طال عذابه في النار، عياذا بك اللهم من حرها وسمومها.

وقال بعض أهل العلم: لا يدخلها ابتداء، فيطهر أولا في نار عصاة الموحدين، إن شاء الله، عز وجل، بعدله: تطهيره بها قبل دخول الجنة، فإذا ما طهر، دخلها دخولا أبديا لا عذاب بعده.

ومن ذلك أيضا:

حديث: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الظُّرُوفِ).

فإن "الظروف" في هذا الحديث: ظروف معهودة، تقدم ذكرها في حديث وفد عبد القيس: "الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْحَنْتَمِ"، لأن الانتباذ فيها، مظنة الإسكار، بخلاف الانتباذ في أوعية الجلد، فإن النبيذ إذا اشتد فيها مزقها، فصار ذلك مسوغا للانتباذ فيها، لوجود العلامة الفارقة بين النبيذ المسكر وغير المسكر، بخلاف تلك الأوعية فإن النبيذ قد يشتد فيها دون أن يشعر أحد، لصلابة جدرها، فلا يوجد في تلك الحال علامة فارقة كالحالة الأولى.

فتكون "أل" عهدية، تشير إلى أنواع بعينها، لا كل ظرف، وقد نسخ هذا النهي بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)، فصار من منسوخ السنة بالسنة، وصار مما علم نسخه بنص صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ومنه أيضا:

قوله تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).

فإن "أل" في "العالمين": عهدية، تشير إلى عاملي زمانهم، دون من سواهم، فقد نزعت منهم هذه الفضيلة لما حادوا عن الجادة، فلا إشكال في الجمع بين هذه الآية، وقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، فإن فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ناسخة لفضيلة من سبقها من الأمم، وهي، أيضا، مقيدة، بلزوم الجادة: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، فإذا ما حادت أمة الإسلام عنها، فلا نسب بين الله، عز وجل، وبين أحد من عباده، إلا الطاعة.

ومثله:

قوله تعالى: (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ): فإن "أل" في "العالمين" عهدية، تشير إلى عالمي زمانهم دون من سواهم، والضيوف منهم خاصة، فقد نهوا لوطا، عليه السلام، عن الضيفان، ليغدروا بهم، كما قد علم من سيرتهم الخبيثة.

يقول ابن أبي العز، شارح الطحاوية، رحمه الله:

"قد يذكر "العالمون"، ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، و: {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ}، و: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ}، و: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} ". اهـ

بخلاف "العالمين" في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ): فإن ذكره من باب العموم المطلق، فتكون "أل": جنسية استغراقية، وإن كان الجمع لا يقصد به إلا العقلاء، بخلاف المفرد: "عالم": الذي يعم بأصل وضعه: العاقل وغير العاقل، ولكن ذكر الجمع هنا من باب التغليب، بقرينة عموم ربوبية الله، عز وجل، العقلاء، وغير العقلاء، فهو رب كل شيء ومليكه.

وكذلك في قول عَمَّارٌ رضي الله عنه: "ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ". اهـ

فإن "أل" فيها، أيضا، للاستغراق الجنسي، وإن قصد بها العاقل، فقط، مع أن أصل وضعها، كما تقدم، يعم العاقل وغير العاقل، لقرينة إلقاء السلام، فالسلام لا يلقى على غير العاقل من شجر وحجر، فهي عامة باعتبار ما يقبل إلقاء السلام، ولقائل أن يقول، إن معنى العهد فيها حاصل من جهة أن هذا العموم مخصوص بالمؤمنين دون من سواهم، فلا يشرع بدء الكافر بالسلام.

فتكون من قبيل العام الذي أريد به الخاص بقرينة نحو حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ............ ) الحديث.

فإن تحية الكافر، تكون بغير السلام، إن احتاج المسلم إلى ذلك.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير