ومن ذلك "أل" في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)
فإن "الأمانة" في هذه الآية هي: الفرائض التي افترضها الله على عباده، كما روى الطبري، رحمه الله، في تفسيره، من طريق هشيم عن العوام عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس، وفيه انقطاع بين الضحاك، رحمه الله، وابن عباس رضي الله عنهما. ومعناه صحيح، إذ "أل" في "الأمانة" في هذا السياق: جنسية استغراقية تعم كل فرائض الدين.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
" ........... إن الأمانة هي الفرائض.
وقال آخرون: هي الطاعة.
وقال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها.
وقال قتادة: الأمانة: الدين والفرائض والحدود.
وقال بعضهم: الغسل من الجنابة.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.
وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عُوقِبَ". اهـ
فتكون هذه التفسيرات من باب "التفسير بالمثال"، كما تقدم في مداخلات سابقة، فلا يخصص عموم "الأمانة" بها، بل اشتماله عليها دليل على جنسية "أل" الاستغراقية في لفظ: "الأمانة".
ومن ذلك أيضا حديث حذيفة، رضي الله عنه، قَالَ: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ................ ).
يقول النووي رحمه الله:
"وَأَمَّا الْأَمَانَة فَالظَّاهِر أَنَّ الْمُرَاد بِهَا التَّكْلِيف الَّذِي كَلَّفَ اللَّه تَعَالَى بِهِ عِبَاده وَالْعَهْد الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْإِمَام أَبُو الْحَسَن الْوَاحِدِيّ رَحِمَهُ اللَّه فِي قَوْل اللَّه تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال} قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: هِيَ الْفَرَائِض الَّتِي اِفْتَرَضَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى الْعِبَاد. وَقَالَ الْحَسَن: هُوَ الدِّين، وَالدِّين كُلّه أَمَانَة. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: الْأَمَانَة مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا نُهُوا عَنْهُ. وَقَالَ مُقَاتِل: الْأَمَانَة الطَّاعَة. قَالَ الْوَاحِدِيّ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَر الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ: فَالْأَمَانَة فِي قَوْل جَمِيعهمْ الطَّاعَة وَالْفَرَائِض الَّتِي يَتَعَلَّق بِأَدَائِهَا الثَّوَاب وَبِتَضْيِيعِهَا الْعِقَاب. وَاَللَّه أَعْلَم". اهـ
فهي تشمل الدين كله، فيكون عموم "أل" فيها جنسيا استغراقيا.
بخلاف الأمانة في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فإن "أل" فيها للعهد الذي يشير إلى الأمانة المادية المعروفة من مال ونحوه.
والمقابلة بين: "أد الأمانة"، و "لا تخن"، والطباق بين: "ائتمنك" و "خانك"، يزيد الأمر توكيدا، إذ نبه عليه الصلاة والسلام على الأداء إيجابا بالأمر، وضده من الخيانة سلبا بالنهي.
*****
ومنه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تَرَوا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة .............. ) الحديث.
فإن "أل" في "الدابة": عهدية تشير إلى الدابة المذكورة في قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ).
فليست جنسية استغراقية لتشمل كل ما يدب على الأرض.
وليس المراد بها هنا: الحقيقة العرفية العامة التي خصت الدواب بذوات الأربع، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعا: (إِذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ مَرْهُونَةً فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَفُهَا وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ وَعَلَى الَّذِي يَشْرَبُهُ نَفَقَتُهُ وَيَرْكَبُ).
*****
وكذلك "أل" في الناقة في قوله تعالى: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ).
فإن العهد فيها إما أن يكون:
ذكريا: لتقدم ذكرها في قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
أو ذهنيا: فهي أشهر من أن يشار إليها، فمعنى العهد الذهني فيها متحقق دون حاجة إلى إحالة إلى موضع سابق.
*****
ومنه قوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ).
فإن "أل" في "العرش": عهدية تشير إلى عرش بعينه هو: عرش مصر.
بخلاف العهد في قوله تعالى: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، فإنه يشير إلى عرش الرحمن، عز وجل، بقرينة احتفاف الملائكة به، وهذا بين بأدنى تأمل.
والله أعلى وأعلم.
¥