صرفت لفظ الصوم في هذه الآية من الصوم الشرعي المعهود إلى الصوم اللغوي الذي يدل على مطلق الإمساك، فقد نذرت أن تمسك عن كلام الآدميين، وكان هذا جائزا في شريعتهم، بخلاف شريعتنا التي جاء النهي فيها عن التعبد بالصمت، كما في حديث أبي إسرائيل، رضي الله عنه، وفيه: ( .............. أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).
وذكر بعض المفسرين كالحافظ ابن كثير وأبي السعود رحمهما الله: أن صومهم كان عن الطعام والكلام، فلقائل أن يقول: لا يكون في الآية عمل بالحقيقة اللغوية دون الشرعية، لأن الصمت كان شرعا لهم، فيكون الصوم في الآية محمولا على دلالته الشرعية.
وبتقديم الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية رد على:
الشافعية، رحمهم الله، الذين قدموا حقيقة: "الفرج" اللغوية، والتي تعم القبل والدبر، على حقيقته الشرعية، التي تدل على القبل فقط، في مسألة نقض الوضوء، فقالوا بنقض الوضوء بمس أحدهما عملا بحديث بسرة، رضي الله عنها، مرفوعا: (مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ)، فدلالته: دلالة نص على نقض الوضوء بمس أحدهما لأن كليهما يصدق عليه اسم الفرج في اللغة.
بينما قدم بعض أهل العلم حقيقة الفرج الشرعية، فقال بنقض الوضوء بمس القبل، وقيس عليه الدبر، فالدلالة هنا: دلالة قياس لا نص كالصورة الأولى.
ورد به كذلك على الإمام أبي حنيفة، رحمه الله، ومن تابعه، في مسألة: قصر الإيمان على التصديق، لأن حقيقته اللغوية: مطلق التصديق، فحقيقة الإيمان الشرعية: تصديق وزيادة، فهو: حقيقة لغوية مقيدة، تعم: قول اللسان وتصديق الجنان وعمل الأركان، بل إن التصديق يطلق في اللغة على العمل، كما في حديث: (وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)، فعلى كلا القولين: يدخل العمل في مسمى الإيمان، والخلاف يضيق إذا علم أن أبا حنيفة، رحمه الله، يقول بذم تارك العمل، تماما كمن جعل العمل جزءا من مسمى الإيمان، وإن كان الراجح قول الجمهور من أهل السنة.
*****
ومنه:
قوله تعالى: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)، فإن "أل" في "الأتقى" في قول بعض أهل العلم: عهدية ذهنية تشير إلى معهود بعينه هو: الصديق، رضي الله عنه، لأن "أل" الداخلة على اسم التفضيل: عهدية لا تفيد عموما، فضلا عن معنى العهد المتحقق ابتداء في اسم التفضيل فهو مشعر باختصاص الموصوف به بمزيد وصف، إذ التفضيل: وصف وزيادة، والزيادة لا تكون إلا لمفضل بعينه على بقية أفراد الجنس.
يقول الحافظ السيوطي رحمه الله:
"أما آية نزلت في معين ولا عموم للفظها فإنها تقصر عليه قطعاً كقوله تعالى: "سيجنبها الأتقى الذي يؤتى ما له يتزكى"، فإنها نزلت في أبي بكر الصديق بالإجماع، وقد استدل بها الإمام فخر الدين الرازي مع قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) على أنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهم من ظن أن الآية عامة في كل من عمل عمله إجراء له على القاعدة، وهذا غلط، فإن هذه الآية ليس فيها صيغة عموم، إذ الألف واللام إنما تفيد العموم إذا كانت موصولة أو معرفة في جمع، زاد قوم: أو مفرد بشرط أن لا يكون هناك عهد، واللام في الأتقى ليست موصولة لأنها لا توصل بأفعل التفضيل إجماعا ً، فبطل القول بالعموم وتعين القطع بالخصوص والقصر على من نزلت فيه رضي الله عنه". اهـ
وقال بعضٌ آخر: هي على عمومها، فتعم كل الأفراد الذين تتحقق فيهم الأوصاف المذكورة.
وجمع الحافظ ابن كثير، رحمه الله، بين القولين بقوله:
¥