فالمقصود بلدة بعينها هي: مكة المكرمة، ويؤكد الاختصاصَ هنا: إضافة الرب، جل وعلا، إليها، تشريفا وتعظيما لها، وهذا مما يقوي معنى العهد فيها، إذ ليست كل البلاد معظمة تستأهل إضافة اسم الرب، جل وعلا، إليها، وإن كان هو ربها، جميعا، ولكن الشأن هنا: الربوبية الخاصة التي توجب التعظيم، لا الربوبية العامة التي تشترك فيها كل البلاد والكائنات، كما في لفظ: "عبد الله"، فالمؤمن والكافر، عباد الله، عز وجل، باعتبار خضوعهم لإرادته الكونية، فكلهم معبد مذلل، بخلاف: "عبد الله" بمعنى: عابد الله، فالعابد المنقاد للأمر الشرعي ليس إلا المؤمن فاستحق شرف الإضافة في هذه العبودية الخاصة دون الكافر غير المنقاد، وفي التنزيل: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، فهذه: العبودية العامة، وفيه أيضا: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، فهذه: العبودية الخاصة.
*****
وقوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).
فإن "أل" في الحجارة، إما أن تكون:
للعهد الذكري: لتقدم ذكرها في سورة التحريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)، ولا يعارض ذلك، كما ذكر أبو السعود، رحمه الله، أن سورة البقرة قد نزلت قبل سورة التحريم، فإن ذلك صحيح باعتبار السورة إجمالا، لا الآيات تفصيلا، فقد تنزل سورة قبل سورة، ما عدا آيات من السورة السابقة تنزل لاحقا، وقد يقال بأن العهد الذكري في حال عدم التسليم بذلك معكوس، فيكون ذكر الحجارة قد تقدم أولا في سورة البقر، ثم أعيد ثانيا في سورة التحريم، والخطب في ذلك يسير.
وإما أن يقال بأن العهد في الآية: عهد ذهني يشير إلى حجارة بعينها، أشار إليها الحافظ ابن كثير، رحمه الله، بقوله: "هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة، وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت، أجارنا الله منها". اهـ
*****
ومنه أيضا:
قول أبي بكر رضي الله عنه: (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا)، يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن "أل" في "الموتتين" على الراجح من أقوال أهل العلم: عهدية تشير إلى الموتتين:
الموتة الأولى: التي يخرج بها الإنسان من دار الدنيا إلى دار البرزخ، فهذه يشترك فيها كل بني آدم.
والموتة الثانية: التي تعقب سؤال القبر، فهذه لا تكون في حق الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فهم أحياء في قبورهم، كما في حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، مرفوعا: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)، وهو عند أبي يعلى الموصلي، رحمه الله، في مسنده. وحديث أوس بن أوس، رضي الله عنه، مرفوعا: (إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ قَالَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ يَقُولُونَ بَلِيتَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاء).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
"إِنَّ حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَبْر لَا يَعْقُبهَا مَوْت بَلْ يَسْتَمِرّ حَيًّا، وَالْأَنْبِيَاء أَحْيَاء فِي قُبُورهمْ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْحِكْمَة فِي تَعْرِيف الْمَوْتَتَيْنِ حَيْثُ قَالَ لَا يُذِيقك اللَّه الْمَوْتَتَيْنِ أَيْ الْمَعْرُوفَتَيْنِ الْمَشْهُورَتَيْنِ الْوَاقِعَتَيْنِ لِكُلِّ أَحَد غَيْر الْأَنْبِيَاء". اهـ
*****
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ).
¥