فإن "أل" في "الميتة": عهدية من جهة إفادتها حرمة الميتة إلا ميتة بعينها نصت السنة على إباحتها، كما في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، مرفوعا: (أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ)، وهو عند ابن ماجة، رحمه الله، في سننه.
فإما أن يقال بأنها عهدية، على التفصيل المتقدم، فتكون من باب العام الذي أريد به خاص، فيقصد بعمومها ما عدا السمك والجراد، وإما أن يقال بأنها للاستغراق الجنسي، فتعم ابتداء، والعام ظاهر ظني يحتمل التخصيص، ففي اللفظ نوع إجمال بينته السنة بالخاص القطعي الذي نص على حل ميتة بعينها، فتكون من باب العام المخصوص، فدعوى العهد أو العموم الذي أريد به الخصوص، ودلالته مجازية عند من يقول بالمجاز، أو العموم المخصوص، وهو حجة فيما عدا صورة التخصيص فيشمل الميتات كلها ما عدا المنصوص على حله، كل هذه الدعاوى متقاربة، لأن مؤداها واحد، وإن اختلفت مسالك الاستدلال.
وكذا في قوله تعالى: (وَالدَّمَ)، فإن:
"أل" إما أن تكون جنسية استغراقية لكل أنواع الدماء، أو لبيان ماهية الدم المحرم، فيكون قوله تعالى: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا)، من باب المقيد لمطلق "الدم" في الآية الأولى، وهو أقوى صور حمل المطلق على المقيد لاتحاد السبب: وهو نجاسة الدم، والحكم: وهو التحريم، فتكون "أل" في "الدم": عهدية تشير إلى معهود بعينه هو: الدم المسفوح، بخلاف الدم المتبقي في العروق، فيعفى عنه رفعا للحرج، فتتبعه أمر يشق على المكلفين ويوقعهم في الحرج، ومن كليات شريعتنا أن: الحرج مرفوع.
ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر.
فذلك الدم هو الدم المتبقي في العروق بعد خروج الدم المسفوح، وقول الصحابي: كنا نفعل، له حكم الرفع، وإن لم يضفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، على الراجح من أقوال أهل الاصطلاح، كما اختار ذلك الحاكم النيسابوري، رحمه الله، من المحدثين، وفخر الدين الرازي، رحمه الله، من أصوليي الشافعية، وقواه النووي والحافظ العراقي، رحمهما الله، وهو صنيع الشيخين، رحمهما الله، في صحيحيهما، وقد أكثر منه أبو عبد الله البخاري رحمه الله في الجامع الصحيح.
قال في "بدائع الصنائع": "وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ". اهـ
فيكون العموم في "الدم" مجازيا، إذ أطلق عمومه وأراد خصوص المسفوح، وعلى كل الأقوال، لا يختلف الحكم، وإن اختلف هنا، أيضا، مسلك الاستدلال.
وقد سبق بيان طرف من ذلك في قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا).
*****
ومنه أيضا:
حديث: (الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ).
فـ "أل" في الجار: ظاهر في الجار مطلقا، وتقدم أن دلالة الظاهر ظنية راجحة، فلا يعدل عن الظاهر الراجح إلى المؤول المرجوح إلا بقرينة معتبرة، وقرينة السياق هنا: (فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة)، صرفت عموم "أل" لتصير عهدية تشير إلى الشريك المقاسم، لا كل جار، فالشفعة لا تكون إلا للشريك المقاسم لا الجار الذي يفصل بين ملكك وملكه طربق أو نحوه مما يميز كلا الملكين.
*****
ومنه أيضا:
"الشفاعة" في حديث جابر، رضي الله عنه، مرفوعا: (أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً).
يقول الحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله:
"الأقرب أنها في قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت الشفاعة" للعهد وهو ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمى، وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم وهي شفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيها ولا ينكرها المعتزلة". اهـ
"إحكام الأحكام"، ص158.
ولا مانع من القول بالعموم، كما أشار إلى ذلك الحافظ، رحمه الله، بقوله: "وَقِيلَ الشَّفَاعَة لِخُرُوجِ مَنْ فِي قَلْبه مِثْقَال ذَرَّة مِنْ إِيمَان؛ لِأَنَّ شَفَاعَة غَيْره تَقَع فِيمَنْ فِي قَلْبه أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ، قَالَهُ عِيَاض. وَاَلَّذِي يَظْهَر لِي أَنَّ هَذِهِ مُرَادَة مَعَ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعهَا بِهَا". اهـ
"فتح الباري"، (1/ 522، 523).
فيشفع، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ابتداء شفاعة خاصة لا يشركه فيها أحد، فهي من الخصائص، ويشفع بعد ذلك: شفاعات يشركه فيها غيره، وإن كان هو المقدم فيها، وله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شفاعة خاصة لعمه أبي طالب بتخفيف العذاب عنه.
والله أعلى وأعلم.
¥