وبناء عليه فلا يستغرب أن يخفى حال ملك الموت على موسى كما خفي حال غيره من الملائكة على إبراهيم ولوط ومريم وغيرهم.
ومما يؤيد هذا ما يلى:
1 ـ سياق الحديث، فإنه يدل على أن موسى u حين لطم ملك الموت لم يكن يعرفه، وذلك أنه لما جاءه في المرة الثانية وعرف أنه رسول من عند الله لم يصنع به ما صنع في المرة الأولى، بل سلًَّم الأمر واختار الموت، ولو كان قد عرفه في المرة الأولى لصنع به في المرة الثانية ما صنع في الأولى.
ولهذا يقول ابن حبان: " لو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به ([31])
2 ـ وأما كون الملائكة يتمثلون بصور مختلفة، مما أقدرهم الله عليها، كصور الرجال مثلًا، فيراهم بعض الأنبياء فلا يعرفونهم، بل يظنونهم من بني آدم: هذا ما ثبت في الكتاب والسنة، كما في قصة إبراهيم u مع أضيافه، فإنه لم يعرفهم ابتداءً، حتى إنه أوجس منهم خيفة.
ومثله لوط u، فإنه عرف الملائكة حين أتوه في آدميين لم خاف عليهم من قومه.
وقد قال تعالى عن مريم: ژ?????? ژژڑڑککککگژ (مريم: 17، 18).
في السنة ما يدل على هذا أيضًا، كما في حديث جبريل المتقدم ذكره حين أتى إلى النبي r لم يعرفه في أول الأمر، ولا أصحابه.
3 ـ ما المانع أن تقتضي حكمة الله عزوجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل ويأمره أن يدخل على بغتة ويقول له مثلاً: سأقبض روحك وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت فيكون في قص ذلك عبرة لمن بعده وعظة.
وبناء على هذا فإن ملك الموت قد أتى موسى u في صورة بشرية، ولم يعرفه موسى u، فلطمه لأنه رآه آدميًّا قد دخل داره بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى u عن نفسه مدافعة أدت إلى فقء عين ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم.
فقد جاء في شريعتنا جواز فقء عين الناظر دارًا بغير إذن صاحبها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي r قال: " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه" ([32])، فما المانع أن يكون ذلك كذلك في شريعة موسى uـ فمن المعلوم أن الشرائع تتفق في بعض الأحكام ـ لاسيما وأن موسى u لم يُلِمْ على هذا الفعل مع أن الأنبياء لا يقرُّون على خطأ، وقد رد الله تعالى لملك الموت عينه؟ ([33])
فموسى u في داره الباب مغلق والنافذة مغلقة، فجأة وجد رجلاً في البيت، من أين دخل هذا الرجل، وهذا الرجل دخل صائلاً، والصائل هو الذي يهجم على الناس في البيوت أو يهجم على الناس عمومًا، فموسى وجد رجلاً يصول عليه، ويقول له: أجب ربك، أجب ربك، معناها: سلم روحك: يعني يريد أن يقتله: فما كان من موسى u إلا أن دفع هذا الصائل، وَدَفْعُ الصائل مشروع حتى لو أدى الأمر إلى قتل الصائل، فهو جائز؛ لقوله r: " من قُتل دون ماله فهو شهيد" ([34]).
فما كان من موسى u إلا أن فقأ عينه، وهذا حد الذي ينظر في بيوت الناس بغير إذن، فضلاً عن أن يدخل بقدميه؛ لجديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جُحْر في جحر النبي r، ومع النبي r مدري يحك بها رأسه، فقال: "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" ([35]).
فموسى u مع هذا الرجل الصائل، المتهجم على بيته لم يفعل أكثر من الحكم الشرعي، وهو المدافعة التي كان مؤداها فقء العين.
وإلى القول بأن موسى u لم يكن يعرف ملك الموت في المرة الأولى ذهب ابن خزيمة، وابن حبان، والخطابي، والبغوي، والمازري، والقاضي عياض، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن الوزير، والقسطلاني، والمعلمي اليماني، واستحسنه القرطبي ([36]).
قال ابن حبان:
" كان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى u عليها، وكان موسى غيورًا فرأى في داره رجلاً لم يعرفه، فشال يده فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله عليها .... ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بتيه بغير أمره، من غير جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، للأخبار الجمة الواردة فيه ... كان جائزًا اتفاق الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما
¥