قال القرطبي [في الآية رقم 106 من سورة المائدة]: سمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة، قال علماؤنا: والموت وإن كان مصيبة عظمى، ورزية كبرى، فأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وترك التفكر فيه وإن فيه لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر ([45]).
وسماه الله جل وعلا ابتلاء فقال: ژ??????ٹٹٹٹ????: ژ (البقرة 155).
فلا شك لدى كل عاقل أن كراهية المصيبة والبلاء أمر جبلي فطر الله الناس عليه، حتى قال أحد الشعراء في كراهية الموت:
قامت تشجعني هند فقلت لها
إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيتَه
ما يشتهي الموت عندي من له أدب
وقالت الحكماء: الموت كريه ([46]).
2 ـ ومن السنة ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله r: إن الله قال: " إن الله تبارك وتعالى: قال من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءت" ([47]).
والشاهد من هذا الحديث قوله جل وعلا: " ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته".
قال الحافظ ابن حجر معلقًا على هذا الحديث:
معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روى في قصة موسى، وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه، وقال الكلاباذي ما حاصله: أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت، فيقبض على ذلك، قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلاً عن إزالة الكراهة عنه، فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه ويكره الله مساءته، فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال فيأتيه الموت وهو له مؤثر واليه مشتاق ....
قوله: " يكره الموت وأنا أكره مساءته " في حديث عائشة: " أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته "، زاد ابن مخلد عن ابن كرامة في آخره: "ولا بد له منه"، ووقعت هذه الزيادة أيضًا في حديث وهب، وأسند البيهقي في "الزهد" عن الجُنيد سيد الطائفة قال: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته. انتهى.
وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي، وهو مفارقة الروح للجسد ولا تحصل غالبًا إلا بألم عظيم جدًّا، كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال: "كأني أتنفس من خرم أبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي"، وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا، فلما كان الموت بهذا الوصف، والله يكره أذى المؤمن أطلق على ذلك الكراهة، ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر، وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين ([48]).
فدل ذلك على أن المؤمن المقرب من الله جل وعلا يكره الموت، وأن الله تعالى يكره الإساءة إليه، فيحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عند الله فيجب لقاء ربه، فيحب الله لقاءه.
وبناء على هذا فاستغراب البعض من كراهية موسى u للموت بعدما جاءه ملك الموت ورع باهت وتعسف، فكراهية الموت قد جبله الله تعالى في كل إنسان، وهي من طبيعة بني آدم أن يكره الموت كائنًا من كان، ولا غرابة أن يكرهه موسى عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام لا يخرج عن إنسانيته وبشريته.
3 ـ ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنه قالت: قال رسول الله r: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت. فقال: "ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه" ([49]).
¥