والشاهد في هذا الحديث قول عائشة: كلنا نكره الموت، وليس هذا قول عائشة وحدها، بل قول عموم الصحابة حال قول رسول الله هذا الحديث.
قال ابن حجر: وقع في رواية حميد بلفظ:" فقلنا يا رسول الله"، فيكون أسند القول إلى جماعة، وإن كان المباشر له واحدًا، وهي عائشة. وكذا وقع في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى التي أشرت إليها وفيها: "فأكب القوم يبكون وقالوا: إنا نكره الموت قال ليس ذلك"، ولابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث الباب، وفيه: "قيل يا رسول الله ما منا من أحد ألا وهو يكره الموت فقال: إذا كان ذلك كشف له"، وأخرجه مسلم عن هداب بن خالد عن همام مقتصرًا على أصل الحديث دون قوله: "فقالت عائشة إلخ"، ثم أخرجه من رواية سعيد بن أبي عروبة موصولاً تامًّا، وكذا أخرجه هو وأحمد من رواية شعبة والنسائي من رواية سليمان التيمي كلاهما عن قتادة، وكذا جاء عن أبي هريرة وغير واحد من الصحابة بدون المراجعة ....
وقد وقعت هذه المراجعة من عائشة لبعض التابعين، فأخرج مسلم والنسائي من طريق شريح بن هانئ قال: سمعت أبا هريرة فذكر أصل الحديث قال: " فأتيت عائشة فقلت سمعت حديثًا ان كان كذلك فقد هلكنا"، فذكره قال: "وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت" فقالت: " ليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر ـ بفتح الشين والخاء المعجمتين وآخره مهملة أي فتح المحتضر عينيه إلى فوق فلم يطرف ـ وحشرج الصدر ـ بحاء مهملة مفتوحة بعدها معجمة وآخره جيم أي ترددت الروح في الصدر ـ واقشعر الجلد وتشنجت " ([50]) بالشين المعجمة والنون الثقيلة والجيم أي تقبضت ـ وهذه الأمور هي حالة المحتضر، وكأن عائشة أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعًا، وأخرجه مسلم والنسائي أيضًا عن شريح بن هانئ عن عائشة مثل روايته عن أبي هريرة وزاد في آخره: "والموت دون لقاء الله" ([51]).
وقال ابن الأثير في النهاية: المراد بلقاء الله هنا المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله وليس الغرض به الموت لان كلا يكرهه فمن ترك الدنيا وأبغضها احب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله؛ لأنه انما يصل إليه بالموت.
وقول عائشة: والموت دون لقاء الله يبين أن الموت غير اللقاء، ولكنه معترض دون الغرض المطلوب فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقه حتى يصل إلى الفوز باللقاء.
قال الطيبي: يريد أن قول عائشة: إنا لنكره الموت، يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت وليس كذلك؛ لأن لقاء الله غير الموت بدليل قوله في الرواية الأخرى: "والموت دون لقاء الله"، لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله عبر عنه بلقاء الله.
وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله والدار الآخرة قال: ومما يبين ذلك أن الله تعالى عاب قوما بحب الحياة فقال: ژ?????پپپپ?ژ (يونس: 7). وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها والكراهة بضد ذلك ([52]).
وقال النووي: معنى الحديث: أن المحبة والكراهة التي تعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة حيث ينكشف الحال للمحتضر ويظهر له ما هو صائر إليه ([53]).
ومن خلال هذه العرض الدقيق المفعم لأقوال أهل العلم في هذا الحديث ـ خصوصًا ـ يتبين جهل من جعل هذا الحديث بعينه حجة ليستشكل به على كراهة موسى u للموت، واكتفى بطرف الحديث دون تمامه، ثم غاب عن عقله القاصر مراد رسول الله r من محبة لقاء الله، وبورع باهت وتعنت سخيف ليدلل على نكارة متن الحديث، ليقول إن الصالحين يحبون لقاء الله، فهؤلاء أصحاب رسول الله r والتابعين وشراح كتب الحديث يبينوا للأمة مراد رسول الله r :
ـ فعائشة رضي الله عنها تقول قلنا يكره الموت.
ـ وفي رواية فأكب القوم يبكون، وقالوا: إنا نكره الموت.
¥