ـ وقول أبي هريرة: قيل يا رسول الله ما من أحد إلا وهو يكره الموت، ثم يبين لهم رسول الله r أنه ليس كذلك، وأن كراهية الموت ليست هي كراهية اللقاء، لقول عائشة ـ كما عند مسلم المتقدم ـ والموت دون اللقاء، فتبين أن الموت الذي يكرهه العبد ليس هو اللقاء الذي يحبه المؤمنين.
ـ وقول ابن الأثير: المراد باللقاء المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله.
ـ وقول القاسم بن سلام: اللقاء ليس عندي كراهة الموت؛ لأنه لا يكاد يخلو منه أحد، وهو قول النووي كما تقدم.
كل هذا في الوقت نهى فيه خير البرية r عن تمني الموت لضرٍّ أصاب العبد ـ كما جاء عند الشيخين وغيرهماـ من حديث أنس قال: قال رسول الله r: : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به. فإن كان لابد متمنيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" ([54]).
فكيف يقال: إن الصالحين يحبون الموت؟! إن الصالحين يحبون لقاء الله، نعم. ولكن ـ كما ذكرنا ـ اللقاء غير الموت، ولما كان الموت وسيلة للقاء الله، ولا يتم اللقاء إلا به، عُبِّر عن الموت باللقاء، فخفي على أصحاب الفكر السطحي.
ومن خلال هذا كله يتبين لنا أننا لم نقف على دليل صريح يؤكد أن موسى عليه السلام يكره، وأكبر دليل يفضح هذه الدعوى أن موسى u لما خير بين الحياة ـ بعدد ما تواري يده من شعر ثور يضعها عليه ـ وبين الموت آثر جوار ربه، فلو كان كما قيل أنه يكره الموت؛ لاختار الحياة، وقول ملك الموت عنه ـ أنه يكره الحياة ـ، إنما هو ما فهمه من رد فعل نبي الله موسى u من لطمه وفقء عينه ـ لما نزل لقبض روحه وموسى لا يعرفه، فلا مانع من نفي صحة هذا الفهم بدليل أن الله تعالى زكى موسى u فقال: ژ???????????ژ (مريم: 51)، ولم يعاتبه فيما جرى بينه وبين الملك لعلمه المسبق U بحال نبيه.
كل هذا في الوقت الذي لا يقدح في الإنسان كراهيته للموت؛ لكون ذلك أمر جبلي فطر الله الناس عليه، وموسى لم يخرج عن بشريته لكونه نبيًّا مرسلاً فلا يمتنع عليه ـ عقلاً ـ كراهيته للموت، كما قدمنا بشيء من التفصيل.
رابعًا: لطم موسى لملك الموت ليس اعتراضًا؛ لاستشكال الأمر عليه ابتداء، وكان الأمر أولاً على الابتلاء والاختبار، لا على الإمضاء:
كان من جملة الطعون الموجهة لهذا الحديث ـ خطأ ـ أن بعض هؤلاء الطاعنين استشكل هذا الحديث من حيث إن موسى u قد لطم ملك الموت، إذ كيف يجوز أن يفعل نبي الله هذا الصنيع بِمَلَكٍ من ملائكة الله، جاءه بأمر من أمره، فيستعصي عليه ولا يأتمر له؟! ثم كيف يخالف الملك أمر ربه فيعود إليه دون أن ينفذ أمره بقبض روح موسى u ؟!
وقد عنون ابن حبان لهذا الحديث بقوله: " ذكر خبر شنَّع به على منتحلي سنن المصطفى r من حرم التوفيق لإدراك معناه" ([55]).
ووصف هؤلاء ردَّ فعل موسى u بصك ملك الموت بأنه اعتراض على قضاء الله وقدره.
والحق الذي ينبغي المصير إليه أن صك موسى ملك الموت في المرة الأولى ليس من قبيل الاعتراض كما فهمه المشككون وأصحاب الفكر السطحين وغاية الأمر أن موسى u استشكل عليه الأمر ابتداء لعدم معرفته ملك الموت، فكان تصرف موسى طبيعيًّا لرجل غريب تسور بيته بغير إذنه طالبًا سلب روحه.
يقول الخطابي ـ مقررًا هذا القول ـ:" لما دنا موسى u حين وفاته ـ وهو بشر يكره الموت طبعًا ويجد ألمه حسًّا ـ لطف له ـ أي الله ـ بأن لم يفاجئه بغتة ولم يأمر الملك الموكل به أن يأخذه قهرًا وقسرًا، لكن أرسله إليه منذرًا بالموت، وأمره بالتعرض له على سبيل الامتحان في صورة بشر .... فلما نظر نبي الله موسى u إلى صورة بشرية هجمت عليه من غير إذن، يريد نفسه ويقصد هلاكه، وهو لا يثبته معرفة، ولا يستيقن أنه ملك الموت ورسول رب العالمين فيما يراوده منه، عمد إلى دفعه عن نفسه بيده وبطشه، فكان ذلك ذهاب عينه، وقد امتحن غير واحد من الأنبياء صلوات الله عليهم بدخول الملائكة عليهم في صورة البشر، كدخول الملكين على داود في صورة الخصمين لما أراد الله U من تعريفه إياه بذنبه، وتنبيهه على ما لم يرضه من فعله، وكدخولهم على إبراهيم u حين أرادوا إهلاك قوم لوط فقال: ژ???ژ (الحجر: 62)، وقال: ژ??????????ژ (هود: 70). وكان نبينا r أول ما بدئ بالوحي يأتيه الملك فيلتبس عليه أمره، ولما جاءه جبريل u في صورة رجل فسأله عن الإيمان لم يثبته، فلما انصرف
¥