وخلاصة الجواب: أن أجل موسى قد كان قرب حضوره، ولم يبق منه إلا مقدار ما دار بينه وبين ملك الموت من المراجعتين، فأمر بقبض روحه أولاً، مع سبق علم الله أن ذلك لا يقع إلا بعد المراجعة، والله أعلم ([69]).
وهذا ما ذهب إليه ورجحه محدث الديار المصرية الشيخ أبو إسحاق الحويني فقال:
إن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له: أجب ربك، أمر اختبار وابتلاء، لا أمرًا يريد الله جل وعلا إمضاءه، كما أمر خليله ـ صلى الله علي نبينا وعليه ـ بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء، دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه ([70]).
إذن فالأقدار مكتوبة في أم الكتاب ... والأحداث تتغير وفقًا لما هو مكتوب في أم الكتاب، فنزول ملك الموت، ثم ردِّ موسى له ... أمر كتبه الله كما كتب سبحانه كل ما كان بعد ذلك حتى رجوع ملك الموت وقبض روح موسى؛ ليكون الأجل المقدر لموسى هو ما كان في الرجوع الثاني للملك.
وهذا القول ليس بدعًا من أقوال الأئمة المتقدمين فقد قرره ابن حبان في صحيحه فقال: وبذلك يتبين أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار، كما أمره أن يقول له: أجب ربك، أمر اختبار وابتلاء لا أمرًا يريد الله جل وعلا إمضاءه ([71]).
وبهذا نصل إلى الحقيقة الواضحة الجلية، وهي أن لطم موسى لملك الموت لم يكن من قبيل الاعتراض على قضاء الله وقدره؛ بكونه لم يعرف الملك في المرة الأولى وعدم تخيير الملك له كما يخير الأنبياء، دل على ذلك موقفه في المرة الثانية من اختياره للموت عندما خيِّر، وقال: "فالآن".
كما أن هذا ليس اضطرابًا في الآجال المقدرة، كما وصفه بعض المشككين، وقالوا: إن هذا لا يعارض قوله تعالى:ژ????ہہہہھھژ (الأعراف: 34)، وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الأقدار مكتوبة، والآجال مؤجلة، ولا تعارض فالمراجعة التي دارت بين ملك الموت، وبين موسى إنما هي أمر قدره الله تعالى ـ وإن لم يطلع ملك الموت على هذا ـ وسبق في علم الله تعالى أن قبض موسى لا يقع إلا بعد المراجعة.
خلاصة القول في سطور
· اتفق الثقات من أئمة الإسلام وعلماء الحديث على صحة حديث لطم موسى ملك الموت، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
· جماهير علماء الأمة لا يشترطون تعدد رواة الحديث مادام الحديث قد جاء عمن يؤمن في دينه واشتهرت عدالته، فانفراد الصحابي بالحديث ـ وما نزل من الثقات العدول ـ لا يؤثر في صحة الحديث.
· لم يثبت قط عن أبي هريرة أنه جعل رواية إسرائيلية ونسبها إلى النبي r على أنها حديث نبوي، ولقد وجد الصحابة والتابعون في أبي هريرة حافظًا ضابطًا مدققًا، إذا ناقشه أحد ثبت أنه الحافظ، وإذا روجع في مسألة ثبت أنه الراسخ، ولم يجربوا عليه كذبًا ولا خطأ.
· يكفي أبو هريرة شرفًا أن حفاظ الأمة ـ كابن القيم وابن حزم ـ لما انتصبوا لترتيب أهل الفتوى جعلوا أبا هريرة مساويًا للخليفتين أبي بكر وعثمان في الاندراج في الدرجة الوسطى، وهي الطبقة الثانية عندهم.
· اتفق أئمة الحديث ونقاده على إمامة عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الحديث ونقل الروايةن وأن ما نسب إليه من تشيع لا يطعن في عدالته ولا يقدح في روايته، وأن رواية من هو حال عبد الرزاق في الصحيحين، وممن اختلطوا في آخر حياتهم هي من قبيل روايتهم قبل الاختلاط.
· ثبت في الكتاب والسنة أن الملائكة يتمثلون في صور الرجال، وقد يراهم بعض الناس ويظنوهم من بني آدم.
· لا يمنع أن تقتضى حكمة الله عز وجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل، ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتة؛ ليكون بلاء واختبارًا لموسى، لتظهر رغبة موسى في الحياة، وكراهيته للموت، فيكون في قص ذلك عبرة وعظة لمن بعده.
· فقء موسى لعين ملك الموت أمر طبيعي، وتصرف يتصف بالشرعية في مواجهة رجل غريب اقتحم بيته بغير إذنه يريد نفسه، فدافع موسى عن نفسه مدافعة أدت إلى فقء عين الصورة البشرية التي تمثل فيها ملك الموت.
· فعل موسى مع ملك الموت لا جناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه، فكان جائزًا باتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج ممن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه.
· الصورة المادية التي تمثل بها ملك الموت ليست هي الصورة الحقيقية لملك الموت، فعلى هذا لو عرض ضرب أو طعن في هذا الجسد لم يلزم أن يتألم بها الملك، أو تؤثر على صورته الحقيقية.
¥