تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالمساع المنفي في قوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} [البقرة: 171]، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث.

وهذا التفسير الأخير دلت عليه آيات من كتاب الله جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسنداً إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم، دون غيره، فهم يسمعون غيره، وكذلك في البصر والكلام، وذلك كقوله تعالى في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] فقد قال فيهم صم بكم مع شدة فصاحتهم، وحلاوة ألسنتهم كما صرح به في قوله تعالى فيهم: {يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] أي لفصاحتهم وقوله تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد هم الذين قال الله فيهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] ما ذلك، إن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص، وهو ما ينتفع به من الحق، فهذا وحده هو الذي صموا عنه: فلم يسمعوه، وبكموا عنه فلم ينطقوا به، وعملوا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه، وينطقون به كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ} [الأحقاف: 26] الآية، وهذا واضح كما ترى)) 6/ 194

ويقول القرطبي في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم: (وعلى هذا: فينبغي أن يُرْشَدَ الميِّتُ في قبره حين وَضْعِهِ فيه إلى جوابِ السؤال، ويُذكَّرَ بذلك، فيقال له: "قُلِ: اللهُ ربِّي، والإسلامُ ديني، ومحمَّدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولي"؛ فإنَّه عن ذلك يُسْأَلُ كما جاءَتْ به الأحاديث على ما يأتي، إن شاء الله تعالى، وقد جرى العمَلُ عندنا بِقُرْطُبَةَ كذلك، فيقال: قل: "هو محمَّدٌ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "؛ وذلك عند هَيْلِ التراب عليه.

ولا يُعارَضُ هذا بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}، ولا بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}؛ لأنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نادى أهلَ القَلِيبِ وأسمعهم، وقال: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، ولَكِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا، وقد قال في الميِّت: إِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، وأنَّ هذا يكونُ في حال دون حال، ووَقْتٍ دون وقت) 2/ 97.وقال أيضا (وأمّا إنكار عائشة على ابن عمر سماع أهل القليب، فمن قبيل ما تقدّم؛ وذلك أنها أنكرت ما رواه الثقة الحافط لأجل أنها ظنّت أن ذلك مُعارض بقوله تعالى: {وما أنت بمسمع من في القبور}، و: {إنك لا تسمع الموتى}، ولا تعارض بينهما؛ لوجهين: أحدهما: أن الموتى في الآية إنما يراد بهم الكفار، فكأنهم موتى في قبورهم،

والسماع يراد به الفهم والإجابة هنا؛ كما قال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، وهذا كما سَمّاهم: {صمٌّ بُكمٌ عُمْيٌ}، مع سلامة هذه الحواسّ منهم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير