فالبخاريّ رحمه الله نَظَرَ إلى علاقات الرواية ومواطنها، فهذا مدني وأصحابه كُثُر، وذاك بصريّ، ولا يوجد الحديث إلا عندهما! فهذا محلّ ارتياب، فقال البخاري هذه المقولة من أجل ذلك.
ومن خلال النظر في تعامل الأئمة في روايتهم لهذا الحديث، وتصنيفاتهم، وجدتهم أنهم على إجماع أن راويه هو أبو قتادة الأنصاريّ! ومن هنا جاءت بعض الروايات في حديث حرملة عن مولى لأبي قتادة؛ لأن مولاه يُعرف بالرواية عنه!
ولكني أرى أن هناك خللٌ حصل في نسبة "أبي قتادة" الوارد في الحديث؛ لأن كلّ الروايات التي خرجتها فيما سبق –تقريباً- على عدم نسبته بالأنصاريّ.
ثُمّ وجدت كيف نُسب (أبو قتادة) في الإسناد: فروى الإمامُ أحمد عن يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ، قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا غَيْلاَنُ بنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِغَيْلاَنَ: الْأَنْصَارِيِّ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ أَيْ نَعَمْ - أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِهِ فَغَضِبَ، الحديث.
وفي ((مستخرج أبي عوانة)) من طريق روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدِّث، عن عبدالله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة. قلت: الأَنصاريّ؟ قال: الأَنصاريّ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صومه فغضب، الحديث.
قلت: فالظاهر أن غيلان عندما كان يُحدِّث به عن عبدالله بن معبد لا ينسبه، فاحتاط شعبة لذلك، فسأله عن أبي قتادة هذا، من هو؟ فقال له شعبة: الأنصاري، أي هو أبو قتادة الأنصاري الصحابي؟ فهز غيلان برأسه، أي نعم هو. ومن هنا جاءت نسبة أَبي قتادة في هذا الحديث في الروايات عن شعبة، ثُم تصرف أصحاب الأصناف في الروايات كما تصرف الرواة فنسبوه بناءً على ما سأل شعبة شيخه.
ولكن يبقى السؤال: هل أصاب غيلان في نسبته؟ أو لو لم يقل شعبة له: الأنصاري، فماذا كان سيقول؟! ففعل شعبة هذا أشبه ما يكون بالتلقين، وإن فارقه في عدم تقصد شعبة لذلك، وإنما خطر في ذهنه الأنصاري ظناً منه أن أبا قتادة هذا صحابي، وأشهر الصحابة الذين يعرفون بهذه الكنية هو الأنصاري، فذكره له، فوافقه شيخه غيلان.
وغيلان –وإن كان ثقة- لكن قوله هذا لا يستقيم مع غرابة الإسناد عن أبي قتادة الأنصاري؛ لأن أبا قتادة مدنيّ، والزمانيّ بصريّ، وكذلك حرملة بصريّ. وهذا الحديث لا يُعرف إلا في البصرة.
فروى الإمام أحمد قال: حَدَّثَنَا عَفَّانُ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: سُئِلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ -وَأَنَا شَاهِدٌ - عَنْ الْفَضْلِ فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَ: جَاءَ هَذَا مِنْ قِبَلِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ. حَدَّثَنِيهِ أَبُو الْخَلِيلِ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَلِمَةً تُشْبِهُ عَدْلَ ذَلِكَ قَالَ: ((صَوْمُ عَرَفَةَ بِصَوْمِ سَنَتَيْنِ، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ سَنَةٍ)).
وهذا الإسناد موافق للإسناد الذي رجّحناه فيما سبق.
والملاحظ أن بعض أسانيد الروايات عن غيلان بن جرير (ت129هـ) نازلة! وأقدم من رواه عنه قتادة (ت118هـ). وغيلان سمع من أنس بن مالك (ت92هـ)، فرواية قتادة عنه قديمة وتوفي قتادة قبله بسنين، ولم ينسب قتادة: "أبا قتادة" في روايته.
ورواهُ عنه شعبة (ت161هـ)، وأبان العطار (ت في حدود الستين ومائة)، ومحمد بن سليم أبو هلال الراسبي (ت167هـ)، وجرير بن حازم (ت170هـ)، ومهدي بن ميمون (ت172هـ)، وحماد بن زيد (ت179هـ).
والظاهر أن غيلان حدّث بهذا الحديث في أَواخر حياته، ولهذا كان يشك في بعض الألفاظ كما مرّ بيانه أثناء التخريج، ومنها: "ذكر الخميس" في بعض الروايات.
¥