روى عمر بن يزيد السياري قال: دخلت على حماد بن زيد -وهو شاك- فقلت: حدثني بحديث غيلان بن جرير، فقال: يا بُني، سألت غيلان بن جرير وهو شيخٌ كبيرٌ، ولكني حدثني أيوب. قلت: حدّثني به عن أيوب. قال: حدثنا أيوب عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رياح القيسي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فقتلة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يقاتل لعصبة أو يغضب لعصبة فقتله قتلة جاهلية)).
وفي رواية: "يا بني سمعت غيلان وهو شيخٌ كبيرٌ".
فيحتمل أن الذين سمعوه منه –غير قتادة- سمعوه وهو شيخ كبير فلم يضبطه، وعندما سأله شعبة ونسبه له وافقه، والله أعلم وأحكم.
ومما يدلُّ على أن هؤلاء سمعوه من غيلان في أواخر عمره: أنّ سؤال شعبة له يدلّ على أنه كان شيخاً له معرفة جيدة في الحديث، وقد حاولت تتبع رحلات شعبة، ودخوله البصرة، ومتى سمع منه!
دخل شعبة -وهو واسطيّ، ولد ونشأ فيها-، البصرة عدّة مرات للقاء الحسن البصري وغيره، ويبدو أن سماعه لهذا الحديث من غيلان في دخلته الأخيرة للبصرة عندما استقر بها وكان شيخاً معروفاً عند أهل العلم في كثيرٍ من البلاد، فقد روى عفّان، قال: حدّثنا حنّاد بن زيد، قال: قال أيوب: الآن يقدم عليكم رجلٌ من أهل واسط، يقال له: شعبة، هو فارسٌ في الحديث، فإذا قدم فخذوا عنه، قال حمّاد: فلما قَدِم أخذنا عنه.
وحمّاد بن زيد ممن سمع هذا الحديث من غيلان كما سمعه شعبة، وحماد بن زيد وجرير بن حازم –وهو من أقران شعبة- ممن روى عن شعبة، وهذا فيه إشارة إلى أنهما سمعا الحديث من غيلان في الفترة التي سمعها منه شعبة.
وحمّاد بن زيد (98 - 179هـ) أشار إلى أنه سمع من غيلان وهو شيخٌ كبير، ولذلك حدّثهم في ذلك بواسطة أيوب السختياني (ت131هـ)، وأيوب كان من أقران وأصحاب غيلان، ولم يرو حديث عرفة عنه.
قال حماد بن زيد: "جالست أيوب عشرين سنة".
قلت: فهذا يعني أنه جالس أيوب وهو صغير، فلمّا تشبّع من علم أيوب، سمع بعض الأحاديث من صاحبه غيلان بن جرير، وهكذا كان طلبة الحديث يكون في المدينة كثير من المحدثين، ولكنهم يلازمون أشهرهم وأكثرهم حديثاً وإتقاناً حتى يأخذوا علمه، ثُم يدورون على المشايخ الآخرين يسمعون منهم بعض الأحاديث.
وقول حماد إنه سمع من غيلان وهو شيخٌ كبير لا يعني أن غيلاناً فيه شيء في الرواية، ولكن كان أهل العلم يفضّلون السماع من الشيخ قبل أن يكبر ويتقدّم في السنّ؛ لأنه قد ينسى أو يضطرب أو يخطئ، ولا شك أن هذا الحديث فيه إشارات إلى أن غيلاناً كان يشك في بعض ألفاظه، ولهذا عندما سأله شعبة عن أبي قتادة، فقال له: الأنصاري، فوافقه. وهذا من شعبة يدلّ على أنه كان شيخاً عارفاً بالحديث، وقد سمع من غيلان وهو شيخ، كما سمعه قتادة من قبل وهو شيخ، وقد روى قتادة وشعبة هذا الحديث؛ لأنه يتعلق بفضل يوم عظيم، ولا يوجد في هذا الباب إلى هذا الحديث، فلذلك روياه. رواه قتادة في حياة غيلان، وكأنه سُئِل عن صيامه في بعض مجالسه أو غير ذلك فحدّث به عن غيلان. وكذلك شعبة.
وقد تتبعت رواية قتادة وشعبة عن غيلان، فلم أجد لقتادة إلا حديثاً آخر بجانب حديث صيام عرفة، وحديثين آخرين لشعبة، وهذا يعني ويؤكد ما قلته بأنهما سمعا منه وهما شيخان عندهما حديث كثير، وحديث عرفة مرغوبٌ كونه في الفضائل كما أشرت، ولا يوجد إلا عند البصريين.
ويؤكد هذا أيضاً أن شعبة روى عن غيلان بواسطة خالد الحذّاء، وكأنه سمع من الحذاء قبل أن يذهب إلى البصرة ويسمع من غيلان، وشعبة ومثله من الكبار ينتقون من أمثال هؤلاء الشيوخ فيسمعون أو يسألونهم عن حديث أو اثنين أو ثلاثة؛ لأنهم ليسوا في مرحلة الطلب، بل يُرحل إليهم في سماع الحديث.
ورُبّ سائل يسأل: فإِن كان حماد بن زيد سمع من غيلان في آخر عمره، فلم خرّج البخاري بعض أحاديث عن غيلان؟
أقول: روى البخاري عن حماد بن زيد عن غيلان خمسة أحاديث، كرر اثنين منها، وكلّها لها أصلٌ عند غير غيلان، وهي صحيحةٌ، فلا مشكلة في غيلان إن شاء الله إلا في شكّه في بعض الألفاظ أَو عدم ضبطها، ولهذا لا يُعتمد في تصحيح نسبة أبي قتادة بأَنه الأنصاريّ عندما سأله شعبة، أما روايته في الحديث فمستقيمة إن شاء الله.
¥