تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي سنة 1382 حججتُ برّاً مع جماعةٍ من أهل تطوان منهم الفقيه القاضي الشّيخ أحمد بن تاوَيْت رحمه الله، وفي إحدى اللّيالي ونحن بالمدينة النّبويّة تأخّر الفقيهُ عن الرّجوع إلى البيت إلى ما بعد منتصف اللّيل، فسألتُه عن السّبب، فحكى لي عن احتفال بختم الدّراسة بالجامعة الإسلاميّة وكانت في أوّل عهدها، وجاء في حديثه ذِكْرُ الشّيخ ناصر وإقبال الطّلبة عليه، فلَفَتَ نظري اسمُه، وذكرتُه، وأخبرتُ الفقيه بمعرفتي بعلم الرّجل وإعجابي بتحقيقه ورغبتي الملحّة في لقياه، فأخبرني بأنّه يصلّي باستمرار بالحرم، فذهبتُ معه من الغد لصلاة العشاء بالحرم، وبعد الفراغ لقيناه بباب عبد المجيد، فسلّمتُ عليه وتعرّفتُ إليه، فأخَذَنا بسيّارته إلى بيته بناحية البقيع حيث سهِرتُ معه ساعاتٍ مشهودةً كان لها أحسنُ الأثر في حياتي، وناولني خلالَها من مؤلّفاته وكانت في طبعاتها الأولى: صفة الصّلاة، وصلاة التّراويح، وصلاة العيد في المصلّى، وتسديد الإصابة، وفهرسة كتب الحديث بالظّاهريّة الذي طبع منتخبُه، واستأذنتُه في الرّواية فأذن، وأخبرني بأنّه لا يعُدُّها ذات فائدةٍ أعني الإجازة بأنواعها، وأنّ العبرة عنده بالدّراية والبحث والتّحقيق، وأخبرني أنّه لا إجازة له إلاّ من الشّيخ راغب الطّبّاخ الحلبي الذي أجازه دون طلب منه، وتناولتُ مع الشّيخ أحاديثَ شتّى؛ منها:

أنّه سألني عن الغُماريّين فأخبرتُه - وأنا من أعرَف النّاس بهم لمصاهرتي لهم - بتأييد الشّيخ أحمد لابن تيمية وابن القيّم في معتقدهما السّلفي، فسُرّ بذلك إلاّ أنّه سألني عن عمل الشّيخ في كتابه "مطابقة الاختراعات العصريّة" حيث يحتجُّ بالموضوعات والواهيات وهو يعرفُها، فأخبرتُه بانتهاجه مسلَك من يُحيل على السّند وهو يذكر الأحاديث بأسانيدها، وردّ الشّيخ ناصر هذه الفكرة بقوّة، كما أشار إلى حَلِفِ الشّيخ أحمد على أنّ مراد الله من الآيات النّازلة في المنافقين في أوائل سورة البقرة هم الوطنيّون العصريّون، فلم أدرِ ما أقول إلاّ أنّني قلتُ له بأنّه مسبوقٌ ببعض هذا من يوسف النّبهاني.

وسأل الشّيخ ناصر عن زعم الشّيخ أحمد بأنّ جمال عبد النّاصر وأصحابه هم المبشّر بهم في حديث "لا تزال طائفةٌ من أمّتي"، وأنّ الزّعيم المغربي فلاناً هو المعنيُّ بحديث "وكان زعيمُ القوم أرذلَهم" [5]، فكان جوابي أنّ ذلك كان من الشّيخ ردَّ جميلٍ؛ لأنّ الثّورة المصريّة آوته وحمته بعد لجوئه إليها من المغرب.

فقال الشّيخ ناصر: كيف يكون ردُّ الجميل بالكذب والتّحريف في الحديث النّبويّ؟ ولطول العهد نسيتُ مسائل أخرى تتعلّق ببعض أقوال الشّيخ الغُماريّ.

وبعد سنواتٍ كثيرة زارنا الشّيخ ناصر في تطوان وطنجة مرّتين أملى في إحداهما ترجمته موسّعةً نُشر ملخّصها في جريدة "النّور" التي تصدر بتطوان، وأطلعتُه على بعض النّوادر بخزانة تطوان، وكنتُ يومئذ مسؤولاً عنها، وصوّرتُ له بعض الرّسائل.

وفي الزّيارة الثّانية - وكان معه إخوةٌ من مرّاكُش، وهي المرّةُ التي زار فيها طنجة، وناظر الشّيخ الزّمزميّ ابن الصّدّيق الغُماريّ في توحيد الأسماء والصّفات - سألني عمّا يُقال من وجود "صحيح ابن حبّان" بتطوان فأجبتُه بالنّفي، وأخبرتُه بوجود النّصف الأوّل من نسخة دمشقيّة عتيقة من "السّنن الكبرى" للنّسائيّ، فرغب في الاطّلاع عليها، فذهبنا معاً لخزانة الجامع الكبير، ووقف على النّسخة وهي بخطّ شرقيّ جميل نُسخت في القرن السّادس، وأمرني أن أقرأ عليه أبواباً منها في العبادات، ففعلتُ مسروراً وعلّق بخطّه في دفترٍ أسانيدَ.

وبعد سنواتٍ من هذه الزّيارة اعتمرتُ سنة 1404، وفي رجوعي عرّجتُ على دمشق واتّصلتُ بولده الأخ عبد اللّطيف، وسألتُه عنه فأخبرني بأنّه خرج من دمشق فارّاً بدينه وأنّه استقرّ الآن بعَمّان، ودلّني على عنوانه، فذهبتُ إليه، واهتديتُ لمنزله الجديد الذي شارك في بنائه بنفسه، فرحّب بي وأخبرني أنّه قدم يومَه من الإمارات، وأنّه أُجريت له عمليّة جراحيّة، وأنّه متعبٌ، ولولا معرفتُه ورغبتُه في الاجتماع ما سمح به، ولأنّه مُراقَبٌ، فجالستُه رحمه الله ساعةً أعُدُّها من أبرك ساعات العمر، وأهدى إليَّ الجزء الرّابع من "السّلسلة الصّحيحة"، وكان حديثَ الصّدور وفي تجليد فاخر، وكتب الإهداء بخطّه [6]، فاستأذنتُه في الرّواية مناولةً فقال:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير