تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وما معنى الإهداء لأهل العلم إلاّ ذلك؟ ونزل بي من منزله بأعلى جبل الهملان إلى المسجد الحسيني بسيّارته التي انطلق بها في سرعة بالغة.

وممّا أفدتُّه منه قولُه: إنّ المسلمين كانوا وما زالوا يعانون أزمة عقيدة وقد أضيفت إليها أزمةُ أخلاقٍ، وهما أزمتان حادّتان خطيرتان لا تطيب الحياةُ معهما [7].

وكان الشّيخ رحمه الله قبل هذا وبعده منذ أن توطّدت الصّلةُ بيننا لا يفتأ يهاديني، فأرسل إليّ مع الحجّاج والمعتمرين عدداً من رسائله.

وأذكر من شواهد ورع الشّيخ وتوقّفه أنّه في الزّيارة الأولى لتطوان مررنا على حيّ تِجاري وفيه دكّان لبيع الطُّيوب والعطور، فوقف على بعض أنواعها التي تُقَصَّرُ بالمغرب وأُعجب به وسأل عن ثمنها وخرجنا، ثمّ جلسنا مع بعض الإخوان في دكّانه، فلحقنا بعضُ من كان معنا مِمّن حضر وقوفَ الشّيخ على العطور، وناول الشّيخَ قارورةً من ذلك العطر الذي أعجبه فأبى أن يأخذه، فرغب الرّجلُ إليه أن يعده هديّةً فأبى.

وكان بلغني أنّ بعض دَجاجلة طنجة زار دمشق مع مريديه وفي نيّته أن يرزأ الشّيخَ بعضَ مالِه، فذهب إلى منزل الشّيخ وأمر مريديه أن يخلعوا المسابح من أعناقهم لأنّ الشّيخ وهّابيٌّ لا يقبل هذا، ففعلوا ودخلوا على الشّيخ وتذاكروا ونافقوه بالتّقيّة، ثمّ طلب منه شيخُهم الدّجّال القرمطيّ أن يُسْلِفَه نحو أربع مئة ليرة دَيْناً مردوداً لأنّهم نفدت نفقتهُم، فأسلفهم الشّيخُ وزار المغرب مرّتين ولم يأته الدّجّالُ حتّى للسّلام عليه والاعتذار، بل أضرب عن الزّيارة والسّؤال، فلذلك سألتُ الشّيخ بتطوان: هل زارك فلانٌ بطنجة وردَّ عليكَ مالَك الذي أسلفتَه؟ فأجاب بالنّفي وأنّه لم يسأل عنه وهو بطنجة حتّى لا يحرجه. فانظر إلى أخلاق هذا الوهّابيّ كما يلمزونه، وأخلاق هذا القطب الصّوفيّ كما يدّعي؟!

وممّا سمعتُه منه رحمه الله وأثابه أنّه لمّا لقي الشّيخَ أحمد بن الصّدّيق بظاهريّة دمشق وتذاكرا، وكان الشّيخُ ناصر يأتيه بنوادر المخطوطات الحديثيّة التي لم يرها الشّيخُ الغماريُّ وربّما لم يسمع بكثير منها، وفيها أعلاقٌ بخطوط مؤلّفيها أو سُمعت على كبار الحفّاظ، وفي أثناء المذاكرة والمناقشة احتدَّ الغُماريُّ وصاح، وكان في خُلُقه حدّةٌ، خصوصاً إذا نُوقش في معتقده وحدة الوجود والقائلين بها، وهو من الغُلاة في هذا الباب، فردّ عليه الشّيخ ناصر بهدوءٍ: كيف تفعل هذا يا شيخ أحمد وأنتَ عربيٌّ وشريفٌ هاشميٌّ كما تقول، وأنا عجميٌّ ومع هذا أحتفظ بهدوئي وأدبي؟!

وبالجملة فذكرياتي مع الشّيخ ناصر الدّين بحقٍّ طويلةٌ ولا أذكر السّاعة منها إلاّ هذا.

وقد أُثيرت في زيارتي الأخيرة للمدينة المنوّرة الموسم الماضي مسألةُ روايتي عن الشّيخ مناولةً، وكأنّ بعض الإخوان من تلامذته تشكّكوا وتوقّفوا قائلين: إنّنا طلبنا من الشّيخ مراراً أن يجيزنا فأبى قائلاً: أنا لا أفتح على نفسي هذا الباب. فكان جوابي أنّ هذا رزقٌ معنويٌّ يسّره الله لي، على أنّ هذا كان منذ ما يقربُ من أربعين سنةً، وربّما كان معظمُ هؤلاء لم يُولَدوا بعدُ والشّيخُ يومئذ فتى مكتهلٌ صحيحُ البنية يتوقّدُ نشاطاً، وصادف أن زاره طالبٌ مغربيٌّ لمس من مذاكرته صدقَه وحرصَه على العلم وتعلّقَه بالحديث وعلومه وأهله، فقدّم إليه الشّيخُ مع القِرى - وكان قطعاً من الحَبْحَب؛ البطّيخ الأحمر كما أذكر - رسائلَ ممّا طُبع له يومئذ هديّةً، فاستأذنه الطّالبُ في الرّواية بالمناولة فأذن جبراً لخاطره وإتماماً معنويّاً لقِراه.

وأذكر أنّ الشّيخ أبا إسحاق الحويني المصري - وهو من أنجب وألمع تلاميذ الشّيخ - لم يسألني هذا السّؤال وقد زرتُه بكفر الشّيخ منذ نحو سنة ونصف وأضافني وأكرمني وأهداني كتابه "تنبيه الهاجد" [8] فأخبرتهُ - وأنا معه بمكتبته العامرة - أنَّ لي روايةً عن كبار مشايخ المغرب المعاصرين، وعن شيخنا معاً الشّيخ ناصر، فرغب حفظه الله في الإجازة فكتبتُها له مجلساً في دفتر له كبير.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير