إن إمامنا عبد الحميد بن باديس –طيب الله ثراه- لو نظرنا إليه باعتباره مؤسسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين -التي أخذت على عاتقها النهوض بالمجتمع الجزائري بواسطة بناء المدارس، وإنشاء النوادي، وتأسيس المساجد، وتكوين المنظمات الشبانية، الكشفية منها، والرياضية، والطلابية، وإصدار الصحف، لنشْرِ الحياة الفكرية- لكفاه ذلك وحده فضلا؛ فكيف لو اعتبرنا تفسيره للقرآن، وشرحه للموطأ، وكتاباته الصحفية، التي نافح فيها عن الإسلام والعربية، وعن الوجود التاريخي والسياسي للجزائر؟! وقبل ذلك وبعده، وضعه منهاجا لتحرير الوطن في نشيده «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب» الذي دعا فيه شباب الجزائر، إلى أخذ العدة للكفاح المسلح الناجح بعد استكمال أدواته، ذلك النشيد الذي قال فيه:
"يا نَشء أنتَ رَجَاؤُنا وبِكَ الصبَاحُ قد اقتربْ
خُذْ للحياةِ سِلاحَهَاوخُضِ الخطوبَ ولاَ تَهَبْ
وارفع منار العدل والـ إحسان واصدِم من غصبْ
وأذِقْ نُفُوس الظالمينَ السُّمَ يُمْزَجُ بِالرَّهَبْ
واقْلَعْ جُذورَ الخائنين؛ فمنهمُ كُلّ العَطَبْ
واهْزُزْ نُفوسَ الجامدِينَ، فرُبَّما حَيي الخشَبْ
هَذا نِظامُ حياتِنابِالنُّور خُطّ وباللّهَبْ
هَذا لكُم عهْدي بهِحتّى أوسّدَ في التُّربْ
فإذا هلكْتُ فصيْحتي: تحْيَا الجزائرُ والعَرَبْ
يا قوم هذا نشؤكم وإلى المعالي قد وثب
كونوا له يكن لكم وإلى الأمام ابنا وأب
دستور للجزائر المستقلة
أيها السادة أيتها السيدات:
كما أن الإمام ابن باديس وضع منهاجا للتحرير الوطني -فيما كنا نستمع إليه- فإنه كذلك، رحمه الله، قد وضع للجزائر التي آمن بأنها ستستقل -بحول الله- دستورا تسير على هداه، استلهمه من أوَّلِ خطاب ألقاه أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- أوَّلُ خليفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ... » كما هو منصوص عليه في مقال له تحت عنوان: (أصول الولاية في الإسلام) الذي ورد في الجزء الخامس من آثاره ص361، مقررا فيه مبدأ «الديمقراطية الشعبية» في الحكم، إذ يقول في المادة الأولى منه: «لا حق لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحقِّ والسلطة، والولاية والعزل، فلا أحد يتولى أمرها إلا برضاها، فلا يُورَث شيء من الولايات ... وهذا الأصل مأخوذ من قوله (وليت عليكم) أي قد ولاني غيري وهو أنتم».
ألا يستوجب كل ذلك رفعه إلى أسمى مقامات التقدير والإجلال، وتعريف الناشئة بجليل أعماله، وجميل آثاره؟!
إنما الأمم بأعلامها
أيها السادة أيتها السيدات:
إن الأمم بأعلامها علماءَ كانوا، أو ساسة، أو قادة عسكريين، إنهم هم الذين يجسدون روحها التواقة إلى الكمال، وجلائل الأعمال، وهم النبراس الذي ينير لها الطريق إلى الحياة الحرة الكريمة، وهم الذين يحركون فيها الشوق إلى غد أفضل، ومجد أكمل، فهم النموذج الملهم، الذي ينبغي أن نقدمه لناشئتنا، لتتأسى به، وتنسج على منواله، في خدمة هذه الأمة والتمكين لها.
ولا أراهم يوفقون في خدمتها على الوجه الأمثل، إلا إذا تسلحوا بالفهم الصحيح لحقيقة الإسلام، التي عبر عنها الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله- عند تمييزه بين الإسلام الوراثي، والإسلام الذاتي، كما جاء في مقاله المنشور في الشهاب ج. 8، مج. 13، شعبان 1356هـ/ أكتوبر 1937م قائلا: « .. هذا الإسلام الوراثي حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به –وخصوصا العربي منها- شخصيتها ولغتها وشيئا كثيرا من الأخلاق ترجَحُ به الأمم الإسلامية إذا وزنت بغيرها، لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبُّهِ أفكارها، وتفتُّحِ أنظارها، والإسلامُ الوراثي مبني على الجمود والتقليد فلا فكر فيه ولا نظر».
«أما الإسلام الذاتي، فهو إسلام من يفهم قواعد الإسلام، ويدرك محاسن الإسلام في عقائده، وأخلاقه، وآدابه، وأحكامه، وأعماله، ويتفقه –حسب طاقته- في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ويبني ذلك كلَّه على الفكر والنظر، فيفرق بين ما هو من الإسلام بحسنه وبرهانه، وما ليس منه بقبحه وبطلانه؛ فحياته حياة فكر، وإيمان، وعمل، ومحبته للإسلام محبة عقلية قلبية، بحكم العقل والبرهان، كما هي بمقتضى الشعور والوجدان».
¥