وأستميح المحتفى به الدكتور شاكر الفحام أن يمنحني الفرصة كي أتحدث كواحدٍ من أصدقائه، عاشره فترة تزيد على ربع قرن، وعرفه عن كثب وزيراً مسؤولاً ومدرّساً أديباً، وقبل كل ذلك إنساناً رقيقاً يتمتع بخلق كريم، وبتواضع العلماء الواثقين من علمهم، الراسخين في تخصصهم، إذا حدثك في الأمور الإدارية وشؤون الوزارات التي تسنّم سُدَّتها حدثك حديثاً على مستوى عالٍ من الإحساس بالمسؤولية المنوطة به من جهة، والتي تتطلبها مصلحة الوطن ومقتضيات المرحلة التي يمر بها المجتمع من جهة أخرى.
وإذا حدَّثك في الأدب، فأنت أمام شخص يذوب رقةً وعذوبة في تحليل النصوص، وسبر كوامن المعاني المخبوءة في ثنايا القلم والعبارات والجمل والأساليب، عايش بشاراً والفرزدق، ورافق ابن زيدون وابن خفاجة، وتأدب بأدب المشارقة والمغاربة، فاستوعب فكره المشرق والمغرب، فحق أن يوصف بالآخذ من كل علم بطرف.
وإذا حدثك في الثقافة فأنت أمام عالم ثقف تجارب الأقدمين، واطلع على معطيات فكر المحدثين، فقد جمع الثقافة والمعرفة من أطرافها، وشارك بثقافته الواسعة في المؤتمرات والندوات والمحاضرات، وكان رأيه فيها الرأي الحصيف وكلمته الكلمة المسموعة، وقراره الذي يسبق آراء صنَّاع القرار.
ولم أنسَ ذلك اليوم أيضاً عندما خرج من محاضرته في قسم اللغة العربية ليستريح في مكتبي، فسألته -بسذاجتي الحورانية-: وهل الإعارة للجزائر والاغتراب لخدمة التعريب مجزية مادياً، فابتسم وتجاهل الإجابة عن الماديات، وأجابني ببيتين من الشعر، عرفت فيما بعد أنهما أثمن من الماديات، قال:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلى = وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرُّج همٍّ, واكتساب معيشة = وعلم, وآداب وصحبة ماجد
عرفت الرجل عندما عاد من القاهرة هو ورفيق دراسته آنذاك الدكتور إحسان النص، وسعدت بزمالتهما في كلية الآداب في جامعة دمشق، ودارت الأيام فأصبح الدكتور شاكر رئيساً للجامعة، وأصبحت أنا رئيساً لقسم اللغة العربية، وكنت حديث عهد بالأمور الإدارية، فلم أنس ذلك اليوم الذي أخذني فيه إلى (أتوستراد المزة) حيث قرر أن تنشأ كلية الآداب، لأن كلية الآداب في المبنى القديم ضاقت بالعدد المتزايد من طلابها وطالباتها، وكان يحب أن يقف على آراء أصدقائه، وألا ينفرد بوجهة النظر ثم قامت كلية الآداب؛ وتوالى بعدها- في عهده قيام كليات أخرى وجامعات أخرى فأصبحت الآن صروحاً علمية تضم عشرات الآلاف من أبناء هذا الوطن الحبيب وشهادة أخرى أشهدها بحق صديقي هذا، خلاصتها أنه كان من أوائل السفراء الذين أرسلتهم سورية على أثر استقلال الجزائر سنة (1962) فأقام فيها سفيراً، ولكنه لم يقصر عمله على جهوده الدبلوماسية، بل كانت همته تحدثه بعمل علمي قلما يقوم بمثله السفراء، وهو تعريب القطر الجزائري الذي ران تحت السيطرة الفكرية والثقافة الفرنسية قرناً وثلث القرن، فأغرى الدكتور شاكر ـ بشرف الاستقدام ـ زملاءه من العلماء السوريين, كالدكتور أسعد الدرقاوي, والدكتور بديع الكسم, والدكتور شكري فيصل رحمهم الله جميعاً, والدكتور إحسان النص, وهشام الصفدي, ووحيد سوار, أطال الله في أعمارهم جميعاً، وكان هؤلاء يمثلون جيل المعرِّبين الأوائل، ولما عاد الدكتور شاكر إلى الوطن, جنَّد الجيل الثاني وأغراهم بمواصلة حركة التعريب في الجزائر، وكنت واحداً منهم, ومعي الدكاترة عمر موسى باشا, وعبد الكريم الأشتر, وصفوح خير، ومحمد رضوان الداية, وجودة الركابي. ومن كلية العلوم الدكتوران: حسن كنيش, وأدهم السمان رحمهما الله وقد شعر الدكتور شاكر بأن المرتبات التي يعطيها هذا البلد الناشئ الذي مازال يبني نفسه لاتتوازى مع اغتراب المدرسين وجهودهم في حقلي التعليم العالي والتعليم الأساسي فعرض على المرحوم الرئيس الخالد حافظ الأسد أن يُمنح المعارون للجزائر كامل المرتب من الموازنة السورية تقديراً لجهودهم في إعادة الاعتبار للغة القومية في المؤسسات التعليمية ووزارات الدولة الأخرى، ووافق الرئيس الأسد على هذا الاقتراح فكانت مكرمة تسجل للرجلين.
¥