ثم جاء الوعيد الشديد، والتخويف الرهيب، للكفار والظالمين، والبشارة للمؤمنين بالركن الشديد، والناصر الحق المبين، فقال تعالى ذاكراً بعضاً من صفاته العليا وأسمائه الحسنى {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهو سبحانه إذا أخذ الظالم لم يفلته يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز و جل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ {كَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}).
فمهما ظلم الظالمون، ومهما كاد الكافرون، ومهما مكر الماكرون، فإن الله وراءهم بالمرصاد، وهو ذو البطش الشديد، وهو الذي يبدئ كل شيء ثم يعيده، وكل شيء منه وإليه، فهو الذي خلق الخلق وإليه سيعودون، وسيجازي المحسنين بالحسنى والكافرين بالعذاب الشديد.
ثم بين لألئك المضطهدين المأسورين المظلومين أنه هو الغفور لجميع الذنوب، الساتر للعيوب، المتجاوز عن السيئات، وهو الودود الذي يُحِب ويحَب، فهو عز وجل يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأماكن، وكذلك يحبه عباده المؤمنون.
فهنيئاً لمن نال محبته، وتقرب إليه بحبه، ومن كانت محبة الله في قلبه متمكنة، هان عليه كل عذاب، وهانت عليه حتى نفسه، التي يقدمها في سبيل نيل محبته سبحانه ورضاه والثبات على دينه.
وفيه -والله أعلم - إشارة إلى أنه مهما حصل للعبد من الشدة والبلاء فإنه لا يسوي شيئاً مع مغفرة الله لذنوبه، وتستر الله لعيوبه. فيا أيها المؤمنون إذا حصلت لكم مغفرة الذنوب وستر العيوب، فلا تبالوا بما يصيبكم من البلاء والشدة والمرارة، وتقربوا إلى الله بما يحبه لتنالوا محبته، فمن نال محبة الله فلا يضره ما يصيبه من البلاء مهما بلغ.
ثم ذكر أعظم مخلوقاته وأعلاها، وهو عرشه عز وجل الذي وسع السموات والأرض والكرسي، وهو الفعال لما يريد لا يعجزه شيء ولا يخشى شيئاً يفعل ما يشاء ويصنع ما يريد فإن شاء أهلك هؤلاء ولا راد لحكمه بل {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} فلا يعجزه فعل شيء ولا يمنعه مما يشاء فعله شيء.
قال عز وجل {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ثم ذكّر سبحانه بحال أولئك الكفار الأوائل، الذي عتوا في الأرض وبغوا، وأفسدوا وتمادوا أين هم؟ وماذا حل بهم؟ لقد أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فهاهو فرعون الذي ظلم عباد الله، وبغى في أرض الله، وتكبر وتجبر، كيف أهلكه الله عز وجل بماء البحر ثم نجّى الله بدنه ليكون عبرة لمن يعتبر فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكافرين لا يزالون في تكذيبهم، وفي غيهم، وفي ظلمهم، ومن ظن أنهم تاركوا ذلك فقد ساء ظنه، فإن اليهود مهما تعاقبت الأزمنة، وتتابعت العصور، لا يزالون في ظلمهم، وفي غيهم، وفي كفرهم، وفي حقدهم، وهذا هو حالهم وحال من مثلهم. وثم بيّن سبحانه إحاطته بهم، وكونهم تحت تصرفه، وتحت تدبيره، فأين المهرب والله من ورائهم محيط؟ وأين المفر والله بما يعملون خبير؟ وأين النجاة والله على ما يفعلون شهيد؟
ثم أيها الأخوة في الله يختم ربنا عز وجل هذه السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وما حواه من الآيات البينات، والوعيد الشديد والوعد المحقق، لمن تدبره واستفاد منه وكان له قبل أو ألقى السمع وهو شهيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ[هاني درغام]ــــــــ[04 Jun 2010, 03:19 م]ـ
جزاكم الله خيرا كثيرا وبارك لكم
ـ[أبومجاهدالعبيدي]ــــــــ[05 Jun 2010, 05:43 ص]ـ
بداية موفقة يا أبا عامر!
وكم في هذه السورة العظيمة من العبر والدروس!
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على أصول مهمة في العقيدة، وهي:
(1) الإيمان بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض , والذي هو علي كل شيء شهيد , والذي له البطش الشديد , وهو ـ وحده ـ الذي يبدئ ويعيد , وهو ـ تعالي ـ الغفور الودود , خالق العرش ومالكه , العظيم في ذاته , وصفاته , وأسمائه , وأفعاله , وأنه ـ سبحانه وتعالي ـ صاحب الإرادة المطلقة في هذا الكون وهو الفعال لما يريد , وقدرته محيطة بكل شيء في هذا الوجود.
(2) اليقين باليوم الموعود ـ وهو يوم القيامة ـ الذي وعد الله ـ سبحانه وتعالي ـ به جميع خلقه , والتصديق بكل ما سوف يحدث فيه من تدمير كامل للكون وجميع ما فيه من كائنات , ثم إعادة خلق كل ذلك , وما سوف يستتبعه الخلق الجديد من بعث للأموات , وحشر , وحساب وجزاء , ثم خلود ; إما في الجنة وإما في النار.
(3) التسليم بأن الخلق سوف يعرضون أمام خالقهم في يوم القيامة , وأن أعمال كل فرد منهم سوف تعرض عليه بتفاصيلها ليشهد كل إنسان بنفسه علي أعماله. وكذلك الأمم سوف تعرض علي الله ـ تعالى ـ أمة أمة , وسوف يشهد علي كل أمة نبيها , كما سيشهد خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين ـ علي أمته , ثم يشهد هو وأمته علي بقية الأمم.
(4) التصديق بحتمية الصراع بين الحق والباطل , وبمحاولة أهل الباطل دوما فتنة أهل الحق عن دينهم. والفلاح الحق هو لمن يثبت من عباد الله المؤمنين في مثل تلك الفتن.
(5) الإيمان بأن النجاة من النار , والفوز بالجنة هو أكبر صور الفوز.
(6) اليقين بكفر المكذبين بالقرآن الكريم من كفار قريش وغيرهم.
(7) التسليم بأن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وهو محفوظ بحفظ الله تعالى.
¥