تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن العقل الدلالي لمصطلح "الضرب" يتسع -في عموم القرآن- للمجال الاستخلافي السابق الذكر ضمن الإطار الثقافي والمنطقي الذي هو غاية الخلق الأولى. وذلك طبقًا لثلاث مقايسات فيلولوجية:

- فهناك ضرب المثل، وهو المرور العقلي من المحسوس إلى اللامحسوس، ومن المرئي إلى اللامرئي عبر مسار ذهني تتحايث فيه المقومات المعرفية والمفهومية، لتحقق العبور إلى معنى المعنى.

- وقد تحدث النص الكريم كذلك عن الضرب في الأرض .. وهو السعي العلمي والجسدي في العالم من أجل ترك البصمات الثقافية على المستوى المعماري في الكون.

- وكذلك القول في ضرب العملة (سكّ العملة)، فهو وضع اللمسات الحضارية والسياسية على القطع النقدية من أجل ارتسام صورة تاريخية لزمان حكمي معين.

وهو الذي يُطلب في التعامل الحضاري الأسري بما أنه مسئولية رعوية، كما في النص النبوي (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته). فالمسئولية تقتضي وضع البصمات الثقافية، والتربوية والدينية كلما أرادت المرأة النشوز عن هذا العهد المتعاقد عليه بأمانة الله، كما جاء في خطبة الوداع.

وهذا ليس تأويلا لمجرد التوفيق الحضاري، ووضع آلية للحوار، ولكن القرآن ذاته يعبر عن هذا؛ فقد جاءت الآية الكريمة لتقول من بعد: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [سورة النساء/35]. فالخلاف يعالج داخليًّا بالوسائل الحوارية، ثم ينتقل منه إلى التحكيم التوفيقي فإلى الطلاق وهو مبغوض في الإسلام.

لكن، حين يتم السعي إلى إبدال عقائدي جديد، فإنه من السر بمكان تفصيل دلائل القرآن على قدر المقايسات الأيديولوجية من أجل تثوير الكائنات المسلمة بعضها ضد بعض، وتصديع البنية الاجتماعية للمواطنة الإسلامية من الداخل!

ومن المفارقات أن يلجأ العقل الغربي إلى تأسيس قرائية للتوراة والإنجيل رغم كونها نصوصًا بشرية تستعيد المقولات النبوية، وليست استنساخا مباشرًا للوحي كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن، فظهرت الهرمينوطيقا (التأويلية) اللاهوتية التي أنشأها شلايرماخر ودلتاي. ووجدت الكتب الدينية علميتها، ومن ورائها العلوم الإنسانية، حتى أن دلتاي قد فرّق بين التفسير والتأويل بما يتقارب مع المنهجية الإسلامية حيث جعل التفسير أو الشرح مرتهنًا بالعلوم الطبيعية، فهو الثابت الذي يستعيد جلايا النص، ورأى في التأويل نشاطًا ذهنيًّا محضًا يتوازن بالإجراءات التفسيرية.

ويظل الكائن الغربي يراكم قطيعته مع القرآن الكريم، ويرفض تأويله على كل الصعد المفهومية رغم كونه -من الناحية النصية- بنكًا من العلامات والرموز يؤهل تأويلها لمد جسور الحداثة والحوار بين العالمين الشرقي والغربي.

وفي النهاية فإن هذه المحاولات التي تداعت الأمم بموجبها على الشعوب الإسلامية لن تكون أبدية. فهي مجرد قيم لحظية تعرف الصعود والنزول في بورصة هي بورصة التاريخ، كما يقول بارط في درسه الافتتاحي عن السيميولوجيا.

القرآن .. والقراءة

لو أردنا تأطير الكتاب الكريم نصيًّا، لقلنا: إن القرآن بنية لغوية متناهية لسانيًّا ومنفتحة دلاليًّا. وإذا ما استندنا إلى حقيقته من جهة طبيعته التجاوزية (المتعالية عن الواقع والتاريخ) كان التعريف أكثر دقة وتعبيرًا عن ذاتية الموضوع. فالقرآن هو قول إلهي متحدد كلاميًّا منفتح دلاليًّا. وفي كلا التعريفين ينقفل السياق اللغوي، ويمتنع عن الزيادة والنقصان. فالموقف الإبستيمولوجي والثقافي يقتضي النظر إلى القرآن في قرآنيته، بمعنى اكتشاف ذاتيته من خلال الغوص في بواطنه وتشفيف (من الشفافية) حركته الجوانية، وقراءته من الداخل -كما يقول هشام جعيط في كتابه عن "الوحي والقرآن والنبوة"-.

أما القراءات الخارجية المسقطة على الداخل القرآني فلا تعبر إلا عن روافدها الأيديولوجية وقراراتها الإقصائية المسبقة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير