تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا وقفنا على العتبة المنهجية لاتجاهات قراءة الكتاب الكريم، ألفينا علم النص الديني قد استبق الزمن ليؤسس الهرمينوطيقا اللاهوتية بما يؤمن النفاذ الماهوي إلى الحقائق التي يستنبطها العمق القرآني؛ فقد نَظّر (من التنظير) ابن رشد لقانون التأويل على المستوى الفلسفي، وطرح الشاطبي في مجال التأصيل الشرعي والتقنين المقاصدي قواعد للتأويل القرآني ومعالم السيمياء (الدلالة) الإسلامية. وكان التأكيد على ضرورة اكتساب المعلومات القاعدية للألسنية العامة (إتقان اللغة العربية)، ومعرفة علوم القرآن (القراءات، أسباب النزول، المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ)، إضافة إلى العلم بتقنيات الخطاب وميكانيزمات القول القرآني (المجمل والمبين، المحكم والمتشابه، العام والخاص، المطلق والمقيد .. ) وسواء كان القارئ إيمانيًّا أو غير إيماني، فإن الاستناد إلى هذه الحصانة المنهجية ينتهي بمختلف مسالك الاستقراء إلى ذوات النتائج المتوازنة التي تعبر عن هوية القرآن وذاتيته.

إن ما يزعج العلمانيين العرب، أن يُستقبل الكتاب الكريم ضمن معتقد أساس هو سمته القدسية. فالقرآن كلام الله تعالى. لذلك كان كذلك. والمقدس لا تحديد له في علوم الحداثة. وقد كان للاجتماعي دوركايم في الأشكال البدائية للحياة الدينية قول شخصي في المصطلح، مبني على مناهضته للمعتقد الإيماني، فالمقدس عنده هو المتدرع بالحرام (الممنوع الصِّرْف أو التابو).

وهذا الرأي يتناقض مع الدلالة الدينية (الإسلامية)؛ لأن التعامل مع الإلهي لا يتخذ صبغة الهيمنة والتوتر. فالله هو المحبة والرضى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) - كما يقول القرآن - فليس ثمة ممنوعات في الإسلام. إذ الحرام هو الاحترام .. احترام ما يجتنب الفعل لأجله، كما في مسألة تحريم الخمر. فلو كانت ممنوعة بالشكل التسلطي الذي يصوره دوركايم للناس لكان أول النصوص حاسما في النهي، ولكنه تدرج بالمتلقين لفترة دامت عشرين سنة، واستغرقت أربع مراحل من أجل إرساء وظيفة النقد الذاتي لدى الكائن الإيماني المفكر. فعلّم هذا الكائن أن كليات الشريعة خمسة: المحافظة على العقل والنفس (الجسد) والمال والعِرض والدين .. وفي تناول الكحول والمخدرات انتهاك للكل. فتحريم الخمر إذن هو اجتنابها احترامًا للعقل والجسد والمال .. واحترامًا للممارسات الشعائرية، ولروح التواصل مع الله؛ فالمقدس إسلاميًّا يحمل معنى طهريًّا يدل على مفارقته المدنسات الدنيوية.

وهذا يعني أن القرآن قائم بذاته لا يخضع إلى المؤثرات الأيديولوجية والسوسيولوجية والثقافية، ولا يستمد مقولاته من التناص ومن سلطة الكتابة التداولية (كما في تجربة الكتابة البشرية التي لا تعدو كونها نسيجًا من الاقتباسات حسب درس سيميولوجيا بارط). لذلك صنع القرآن واقعه الإسلامي بعد أن قلب أنظمة الوعي الجاهلي وأبنيته الفكرية دون أن يكون لها فيه شيء منها. وقد تعالى الرسول الكريم ذاته وهو يبلغ الوحي الإلهي عن الذاتية (المصلحية) وكل أسباب الدنس، وقد أعطي الحكم والمال والجمال من قبل السلطة الجاهلية في مقابل التنازل عن مبادئه. فنقش هذا الرسول ـ الإنسان الكامل في ذاكرة التاريخ أن: "والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته". ولهذا كان الإلهي مقدسًا ومتعاليًا في ذاته، لا يخضع لحقول الاختبارات والتجارب والألعاب اللغوية والنصوصية (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) [سورة الطارق/ 13].

وبالمحصلة، فقد تعاقبت التجارب البشرية على العالم، وحين توهمت أنها انتصرت على الإلهي واقتنصت المطلق، واستحدثت دينها، انزلقت إلى سلسلة من التصفيات (موت الآلهة ـ موت المؤلف ـ موت الطليعة ـ موت الحداثة) .. وبعد أن دفعت بالتفاؤل إلى أقصاه حين أعلت من شجن الترعة الإنسانية، وحفزت الإنسان إلى أن يتمركز حول ذاته، لم تلبث أن أهدرت كافة المشاريع الأنطولوجية وأسقطت كافة الرهانات حين أنشأت فلسفة موت الإنسان وأضحت تبشر بالفناء وتقويض الوجود.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير