تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الحواسّ، وهي لأجل ذلك تتحدّى كلّ وصف في اللّغة البشريّة. فقد أجبرنا العلم الحديث على التّخلّي عن اللّغة العادية، لغة التّداول اليوميّ، لأنّ الكون المعاين في بعديه اللاّمتناهي في الكبر واللاّمتناهي في الصّغر قد انفلت عن الإدراك الإنسانيّ. فالمعطيات الّتي تعتني بها المباحث الفيزيائيّة الحديثة تبدو كرسائل عجيبة آتية من العالم الواقعيّ. فهي ليست ظواهر لأنّها لا تتجلّى لنا، ولا نلاقيها في أيّ مكان، ولا تعترضنا أبدا في العالم اليوميّ، ولا حتّى في المختبر. فالمعطيات الفيزيائيّة الطّبيعيّة تنجم من عالم واقعيّ أشدّ واقعيّة من العالم الّذي نعيش فيه، ولها وجود فيزيائيّ تماما كوجود الشّفرة البيولوجيّة الّتي لا تبرز أمامنا أبدا. فالعالم الفيزيائيّ لا يحيط به الحسّ لأنّه انسحب تماما من مجال الحواسّ البشريّة وتجارب الحسّ المشترك (10).

إنّ ما ورد في آيات القرآن من ذكر لعناصر الطّبيعة، كالسّماء والأرض والشمس والقمر والنّجوم، والجبال والأنهار، والماء والنّار، وأشجار ونبات وحيوان، وغير ذلك من الكائنات والموجودات، لا يبيح لنا الحديث عنها بوصفها دلائل على ما في القرآن من علوم شتّى، لأنّ الطّبيعة والعلم شيئان مختلفان تماما (11). فقد كانت الطّبيعة موجودة منذ الأزل، أمّا العلم فهو قبل كلّ شيء خطاب. فالفيزياء مثلا ليست الطّبيعة وإنّما هي خطاب يقول شيئا متميّزا عن الطّبيعة. فالحديث عن الطّبيعة أو القسم ببعض عناصرها لا يحوّلها إلى خطاب فيزيائيّ، أو خطاب علم في الفيزياء، لأنّ هذا الخطاب يقتضي فهما مخصوصا للواقع الفيزيائيّ. وهو يشترط ليتحقّق عزوفا عن رؤية العالم على نحو متأنسن. فمعجزة العلم الحديث أنّه تمكّن من أن يتطهّر من كلّ عنصر إنسيّ لمّا بدأ إنسان العلم يشتغل في مختبره، وشرع في التّواصل مع العالم في لغة رياضيّة. بل يمكن أن نقول: إنّ من مظاهر نجاح العلم الحديث قدرته على التّخلّص من كلّ المشاغل ذات الصّبغة الإنسيّة أو المحكومة بضرب من التّمركز الإنسيّ (12).

إنّ الآيات القرآنيّة الّتي تدعو الإنسان إلى النّظر في العالم والتّأمّل في آياته إنّما هي آيات محكومة برؤية أنطولوجيّة لاهوتيّة للعالم لم تتخلّص من تمركزها الإنسيّ مادام الّذي يتولّى النّظر إلى العالم، ودُعيَ إلى النّظر فيه وتعقّله هو الإنسان ذاته. وهذه الرّؤية الأنطولوجيّة اللاّهوتيّة للعالم هي رؤية ما قبل علميّة مناقضة تماما للفهم العلميّ الحديث. فالكون الجديد في تصوّر إروين سكرودينغر Erwin Schroedinger ليس مبذولا لنا عمليّا فحسب، وإنّما هو لا يمكن التّفكير فيه. ذلك أنّه بأيّ طريقة فكّرنا فيه كان زائفا. قد لا يكون عبثيّا مثل دائرة مثلّثة، ولكنّه أكثر عبثيّة من أسد مجنّح (13). والسّؤال الّذي نطرحه: ما الّذي يمكن للإنسان أن يصنعه بهذا الّذي لم يعد بمقدوره أن يفهمه أو أن يتواصل معه، أو أن يعبّر عنه بلغة اليوميّ البشريّة؟ ...

إذا استثنينا العلماء الّذين يدركون المفارقات المحرجة الّتي يمكن أن تنجرّ عن فهم الفيزياء الكوانطيّة من زاوية نظر أنطولوجيّة، فإنّ المحاولات الّتي سعت إلى ترجمة اللّغة العلميّة في لغة الحسّ المشترك لم تمثّلها نظريّة الإعجاز العلميّ للقرآن أو نظريّة التّفسير العلمي للقرآن فحسب. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة برز نوع جديد من الكتّاب عرف بتسمية "الثّقافة الثّالثة" La “third culture” (14). ولا تمثّل كتاباتهم حقلا منسجما، فلا شيء يوحّد بينهم سوى شبه عائليّ. ولعلّ ما يفسّر نجاحهم هو احتلالهم لموقع المثقّف العموميّ الّذي كان يمثّله في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي الأستاذ الجامعيّ المهتمّ بالعلوم الإنسانيّة، والمنشغل بقضايا الصّالح العامّ والجمهور. وما أن خبا وهج الالتزام السّياسيّ بقضايا الواقع الاجتماعيّ المباشر، وانزوى الأستاذ الجامعيّ في حرمه الأكاديميّ حتّى حلّ محلّه صنف جديد من المثقّف العموميّ صار يفترض فيه العلم، هو ما يسمى بـ"الثّقافة الثّالثة". وهو صنف من الكتّاب قد جعل موضوع كتاباته ترجمة لغة العلماء في لغة التّداول اليوميّ. وقد بدأت المشاكل تنجم من محاولتهم البحث عن فهم للفيزياء الكوانطيّة من زاوية نظر أنطولوجيّة. فالعلماء أنفسهم متأرجحون بين البحث عن وسائل للخروج من هذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير